الحديث في هذه الحلقة متواصل مع الحديث في الحلقة التي قبلها، لكن نشرها يأتي في اليوم الثاني من أيام عيد الأضحى المبارك. وهذا يتيح لي فرصة أنتهزها لتهنئة القراء الكرام بهذه المناسبة السعيدة، راجياً من الله - سبحانه - أن يقبل من الجميع صالح الأعمال، وأن يتم أداء حجاج بيته العظيم لمناسكهم بالراحة والأمن والقبول، ويعيد هذا العيد على أمتنا وقد بدأت تخطو خطوات جادة موفقة لاسترداد ثقتها به ثم بأنفسها لتتغلب على جحافل خوفها من أعدائه وأعدائها.
أما بعد:
فقد كان الحديث المختصر في الحلقة السابقة مركَّزاً على مفهوم الديقراطية لدى الغربيين بالذات مع الإشارة إلى اختلاف هذا المفهوم لدى آخرين وإن ادعى الجميع تبنِّيهم لها، والاشارة إلى شيء من إيجابيات الديقمراطية وشيء من سلبياتها التي من أهمِّها كون مصدر التشريع فيها للبشر وليس كلام خالقهم أحكم الحاكمين، أو كلام أنبيائه الكرام المبلِّغين رسالاته، وما أدى إليه منهج العلمانية من تبنِّي قرارات تتنافى مع الدين والخلق السوي الكريم.
ومما أشير إليه في الحلقة السابقة تباري المتبارين في الهجوم على مقررات العلوم الدينية في مناهجنا التعليمية، متهمين إياها - بعد أن بدأت أمريكا باتهامها - بأنها مصدر الإرهاب. وكنت قد كتبت أربع حلقات عن هذا الموضوع بيَّنت فيها أن هذا الاتهام لا يقوم على أساس علمي.
ومما أشير إليه، أيضاً أن الديمقراطية، وبخاصة بمفهومها الغربي، لم تول عناية كافية لعلاقة المجتمعات التي تبنَّتها بالمجتمعات الأخرى، وأن هذا الخلل ربما كان السبب الجوهري، الذي أدَّى إلى استعمارها المقيت لمجتمعات متعددة في العالم، وصبغها تاريخ ذلك الاستعمار بصبغة سوداء تمثَّلت في ارتكاب جرائم تتنافى مع حقوق الإنسان.
إن من أهم الأسس التي قامت - وتقوم - عليها الديمقراطية الغربية الحرية، رأياً وتعبيراً، واحترام حقوق الإنسان، وكل من الأساس الأول؛ وبخاصة إذا روعيت الضوابط الدينية الواضحة، والأساس الثاني, لهما إيجابياتهما المقبولة الجيدة، وكان من إيجابيات الديمقراطية تحميل من أخَّل بحقوق الأمة، معنوياً أو مادياً، مسؤولية إخلاله بتلك الحقوق، وإلزامه بتنفيذ تبعاتها. وقد يفقد، بسبب ذلك، كل ما حقّقه من نجاح سياسي ومكانة اجتماعية. على أنه، في حالات قليلة، أفلت من العقوبة من أفلت بمكره ودهائه، كما حدث أخيراً بالنسبة لمن كذبوا على الشعبين الأمريكي والبريطاني في قضية أسلحة الدمار الشامل، التي زعموا أن العراق كان يمتلكها قبل عدوانهم الأخير عليه، واحتلال أراضيه، والسيطرة على مخازن تراثه، ومقدرات ثرواته.
وبالعودة إلى مسألة علاقة المجتمعات التي تبنَّت الديمقراطية بالمجتمعات الأخرى يتضح أنها تنظر إلى هذه المجتمعات نظرة مشابهة للنظرة التي ذكر الله في محكم كتابه أن اليهود بنوا مواقفهم تجاه الآخرين: قائلين: (ليس علينا في الأميين سبيل).
ولذلك لم يمنع تبنِّيها الديمقراطية بعض دولها من العدوان على أقطار أخرى، واستعمار أراضيها، والتنكيل بأهلها. وكثير من القراء الكرام يعلمون ما حدث من بريطانيا، أولى الدول الأوربية التي تطوّرت فيها الديمقراطية الغربية، في مناطق متعددة من العالم، ثم ما ارتكبه المستعمرون الأوربيون في أمريكا الشمالية بالذات من جرائم ضد سكانها الأصليين ممن سُمّوا بالهنود الحمر، وما وقع من فرنسا، التي نادت ثورتها المشهورة بالحرّية والعدالة من عدوان على شعوب كثيرة، واستعمار لأراضيها، وارتكاب لمختلف الجرائم ضد سكانها، وبخاصة في الجزائر.
من المعلوم أن الديمقراطية تتضمن احترام حقوق الإنسان من حيث المبدأ، هل راعت بريطانيا -مثلاً- هذه الحقوق عندما تآمرت مع فرنسا - ولمن شاء أن ينكر وجود مؤامرات على العرب - على تقسيم الأراضي العربية التي كانت تحت الحكم العثماني مع أنها وعدت الحسين بن علي، شريف مكة حينذاك، بأن يكون ملكاً على تلك الأراضي بعد انتزاعها من العثمانيين؟ وهل راعت تلك الحقوق عندما أؤتمنت على انتدابها على فلسطين؟ ألم تساعد الصهاينة، تنفيذاً لوعد بلفور وزير خارجيتها، على إعداد أنفسهم للسيطرة عليها في آخر الأمر؟ وكان أول من عيَّنته حاكماً عليها في ظل انتدابها يهودياً، على أن من المسيحيين المتصهينين من هم أشد عداوة للعرب والمسلمين من الصهاينة أنفسهم.
ومن المعلوم، أيضاً، أن بريطانيا، منذ أكثر من أربعين عاماً، أصبحت أشبه ما يكون امتداداً لأمريكا، وكان هذا أكبر الأسباب في معارضة الرئيس الفرنسي، ديجول، دخولها ضمن السوق الأوربية المشتركة، ولم يتح لها ذلك الدخول إلا بعد خروجه من الرئاسة الفرنسية إثر الاضطرابات التي كان في طليعة المحرِّضين عليها طالب يهودي ألماني شيوعي تسلَّل إلى فرنسا. وعلى هذا فالحديث عن أمريكا شامل للحديث عن امتدادها البريطاني.
ما حقيقة موقف دولة أمريكا من الديمقراطية التي من أسسها أن يكون الحكم قائماً على أساس انتخاب شعبي حر؟
إن أي متأمل في التاريخ الأمريكي يجد أنه شاهد على عدم صدق ما يدَّعيه حكام أمريكا من مناصرة للديمقراطية، فكم تآمرت وكالة مخابراتها المركزية - ومرة أخرى لمن شاء أن ينكر وجود مؤامرات غربية - على أنظمة منتخبة انتخاباً حراً،وأطاحت بها ليحلّ محلَّها أنظمة دكتاتورية! ومن أمثلة ذلك ما حدث لحكومة مصدّق في إيران، وحكومة الليندي في تشيلي، أما مراعاة حقوق الإنسان، التي هي الأخرى من مقتضيات إيجابيات الديمقراطية، فمراعاة أمريكا لها، أو عدم مراعاتها، واضحة كل الوضوح فيما حدث من قتل جماعي لمئات الأسرى في أفغانستان في واقعة حاويات العربات المشهورة، وفي قصف المدنيين الأبرياء في أمكنة عدة هناك، ثم فيما ارتكبته ضد من اتهمتهم بأنهم من القاعدة في تلك البلاد وبعد نقلهم إلى قاعدة جوانتانامو، على بعد بضعة أميال من سواحل أمريكا ليحرموا من الحقوق التي يضمنها دستورها في أراضيها، ولو لم يكن من أدلة مناقضة ما تدَّعيه من مراعاة لحقوق الإنسان إلا دعمها المطلق لجرائم الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني إنساناً وأرضاً لكفى.
وماذا عن فرنسا الثورة التي أشاد - وما زال يشيد - بها الكثيرون لأنها دعت إلى الحرية التي هي من أهم أسس الديمقراطية؟
إن سجل تاريخها الاستعماري لأقطار كثيرة مليء بالجور والتعسُّف، والاستعمار - مهما اتخذ من أشكال - اعتداء على حرِّية الآخرين وإن أتى من ورثة قادة الثورة المنادية بالحرية والمساواة، ولقد اتخذ حكام فرنسا - في السنوات الأخيرة - من المواقف ما يبرهن على أنهم لا يقيمون وزناً للحرية أو الديمقراطية، ومن ذلك أن رئيس تلك الدولة حذَّر أيام الانتخابات الحرة التي جرت في الجزائر من أنه سيتدخل عسكرياً فيها إن وصل إلى حكمها أصحاب التوجه الإسلامي وإن يكن هذا الوصول عبر تلك الانتخابات الحرة. ومن ذلك، أيضاً أن أحد الباحثين الفرنسيين كتب عبر تلك الانتخابات الحرة. ومن ذلك أيضاً, أن أحد الباحثين الفرنسيين كتب رسالة علمية شكك فيها - حسب الوثائق - في عدد من ادُّعي قتلهم من اليهود على أيدي النازيين، وأجازت الجامعة التي قدِّمت فيها تلك الرسالة بحث ذلك الباحث.
لكن بعد شهر تقريباً قدم وزير التربية نفسه إلى الجامعة، وعنَّفها على إجازتها الرسالة، وسحبت الشهادة التي أعطيت كاتبها. وآخر مهزلة ترتكبها فرنسا ضد الحرية التي تدَّعي أنها أمها وأبوها، منعها مواطناتها المسلمات من ارتداء الحجاب في مدارسها، الأمر الذي يعرف الجميع منافاته لدستورها القائم على الحرية، بما فيها الحرية الدينية، ما أوضح نفاق منافقي المبادئ!
وما أشد سذاجة من ينطلي عليه هذا النفاق!
|