Sunday 1st February,200411448العددالأحد 10 ,ذو الحجة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

العبودية.. والحقيقة الغائبة العبودية.. والحقيقة الغائبة
عبدالعزيز بن صالح العسكر / الدلم

كنت منذ الصغر كلما قرأت قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } تبادر إلى ذهني المعنى الظاهري لها، وجوب الصلاة والزكاة والحج وبعض الشعائر الأخرى.واستمر حالي - كحال كثير من الناس - على هذا النحو، فالتجارة والعمل الوظيفي واللهو والتسلية وبقية شؤون الحياة لا دخل لها بالعبادة. ولكن هذا التفكير يصطدم بظاهر الآية في الوقت نفسه. فإذا كان الإنسان خلق لعبادة الله فلماذا يحرص على التجارة وهي ليست من العبادة، ولماذا يتزوج والزواج ليس من العبادة، ولماذا يشتغل في الأعمال الوظيفية وهي ليست من العبادة ؟!!أسئلة تلح على الذهن وتبقى حائرة دون جواب، ويبقى القول الفصل لـ(العرف والعادة) وهما الحكم في أفعالنا.وحينما رجعت إلى أقوال المفسرين، وسمعت حديث العلماء في هذه الآية انكشف الغموض وزال الإشكال. فالصلاة والزكاة وغيرهما من الفرائض، وكذلك النوافل شعائر تعبدية يعرفها سائر الناس وهي مما يتقرب به إلى الله تعالى... ولكنها ليست وحدها العبادة يقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام: 162 - 163]، وهذا خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، قل يا محمد: إن صلاتي وذبيحتي وحياتي كلها ومماتي لله رب العالمين' يجب أن أعتقد جازماً أن كل عمل أعمله يجب أن يكون موافقاً لشرع الله، وأن أشعر انه سبحانه وتعالى مطلع عليّ، فإن أحسنت أثابني وإن أسأت عاقبني بحكمته وعدله، فكل حياة الإنسان المسلم مرتبطة بدين الله وشرعه.. انظر مثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقةٌ، قالوا: يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم . إن هذا الأمر بالمقاييس المادية أمر شخصي، إنه شهوة فطرية، فما دخله بالعبادة؟! ولكنه بمقياس الشرع عمل يمكن أن يتقرب به إلى الله، ففيه غض للبصر عن الحرام وإحصان للفرج، وتكثير للنسل الصالح وقوة للأمة، وهو نفسه يمكن أن يكون - إذا وضع في الحرام - نشراً للرذيلة وهدماً للفضيلة، وانتهاكاً للأعراض وخلطاً للأنساب.. فمن العدل أن يثاب الملتزم بشرع الله، ويعاقب المخالف له.وكل ما يعمله المسلم من أعمال مباحة تكون عبادات بحسن النية، وبذلك يثاب المرء على أكله وشربه وبيعه وشرائه، ومشيه ونومه إذا قصد بكل ذلك وجه الله تعالى والتقوي بتلك الأمور على طاعة الله تعالى. وتعقب الآية بقوله تعالى: {لا شّرٌيكّ لّهٍ } نعم فإن المسلم يحب لله ويبغض لله ويوالي ويعادي لله. فقد تجرد من حظوظ نفسه، كما أنه محا من نفسه حظوظ الآخرين.. فلم يشرك مع الله أحداً.. يخاف ربه وحده، ويسأله وحده، ويشكو إليه ويطلب الشفاء والعون والنصر منه وحده. وبذلك المنهج أمر، قال تعالى: {وّبٌذّلٌكّ أٍمٌرًتٍ } ، والآمر هو الخالق الرازق المحيي المميت، ملك الملوك سبحانه وتعالى. والله تعالى غني عن خلقه فلا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، وفي هذا يأتي سياق الآية: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُون، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات: 57 - 58] ، قال ابن كثير: (ومعنى الآية انه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء. ومن عصاه عذبه أشد العذاب. وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. فهو خالقهم ورازقهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك) رواه الترمذي وابن ماجه 1، ثم أورد ابن كثير أنه قد ورد في بعض الكتب الإلهية: (ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكلفت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شي.) وحينما نعرف هذا ندرك مدى التخبط الذي وقع فيه كثير من الناس، حينما بعدوا عن شرع الله وتاهوا في غياهب الجهل والضلال. فإن مفهوم العبادة بذلك العمق والوضوح مما اختصت به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجاء به القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. أما أمم الكفر والضلال فالدين فيها والعبادة لها شأن آخر، فالكنيسة تقول: (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر) وتترجم ذلك العلمانية الإلحادية بعبارة: العبادة في المسجد وفي رمضان، أما السياسة والبيع والشراء والأحوال الشخصية وو... فلا دخل للدين فيها، ووصل هذا الفهم المعوج لبعض المسلمين فظنوا أن العبادة والدين بعامة دوره في المسجد الذي بُني لذلك!! أما في شتى مناحي الحياة فلا دخل للدين فيها، فلا يطيقون سماع هذا حلال وهذا حرام.. بل وصار أكثرهم يستغرب وجود المهندس المتدين والطبيب المتدين، وجميع النساء متدينات واستنكروا أشد الإنكار علاقة الدين بالإعلام والبنوك والحب والبغض وغيرها. فالتاجر - على حد فهمهم - له أن يبيع ويشتري ما يشاء كيف يشاء، و(الفَنّان) له أن يقدم ما يشاء في الإعلام بأي صورة وبأي عبارة ومع من يشاء، وقل مثل ذلك في التعليم المختلط، وعادات الزواج... وكل أولئك مسلمون كاملو الإسلام لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤدون الصّلاة !!وأي طموح للعلمانية الغربية أكبر من هذا ؟!! إنّ أولئك المسلمين قد فات عليهم أن يعرفوا أنّ من يعصي الله ورسوله ويخالف ما أمر به، ويشرك معه غيره فلا ينفعه مجرد النطق بالشّهادتين ولو كرره ملايين المرات... وما الدين إلا منهج حياة متكامل.. ولا يمكن بحال من الأحوال وفي أي زمن من الأزمان أن يلتقي كفر وإسلام، أو يتقارب حق وباطل. ولقد جاء القول الفصل خطاباً صريحاً لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم في سورة من سور القرآن تتلى الى قيام الساعة. قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ،لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وّلا أّنّا عّابٌدِ مَّا عّبّدتٍَمً ، وّلا أّنتٍمً عّابٌدٍونّ مّا أّعًبٍدٍ ، لّكٍمً دٌينٍكٍمً وّلٌيّ } [الكافرون: 1 - 6] . نعم فلا اليهود والنصارى والشيوعيون ولا الهندوس ولا غيرهم يرغبون في ديننا ولا يحبون تعاليمه وشرائعه.. وبالمقابل يجب ألا نحب طقوسهم وعباداتهم ونظم حياتهم المبنية على قانون يخالف الفطرة والدين السّماوي. وما أجمل تعبير القرآن {وّمّا خّلّقًتٍ پًجٌنَّ وّالإنسّ إلاَّ لٌيّعًبٍدٍونٌ } [الذاريات: 56] قال علماء اللغة: هذا أسلوب قصر، والمقصور هو الخلق والمقصور عليه العبادة، فقصرت الغاية من خلق الله للناس على العبادة فقط. فكل من كفر بالله ممن بلغته الرسالة فهو مخالف للغاية التي من أجلها خلق. ولقد حقق الجيل الإسلامي الأول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة العبودية كما بينها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله: (العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)، ثم عدَّ رحمه الله ستة وعشرين عملاً كلها تدخل في مسمى العبادة وقال بعدها: وأمثال ذلك في العبادة.. وبين أن مهمة الأنبياء جميعهم هي دعوة الناس لعبادة الله وحده. قال الله تعالى: {وّمّا أّرًسّلًنّا مٌن قّبًلٌكّ مٌن رَّسٍولُ إلاَّ نٍوحٌي إلّيًهٌ أّنَّهٍ لا إلّهّ إلاَّ أّنّا فّاعًبٍدٍونٌ } [الأنبياء: 25] . وبين بعد ذلك أن العبادة أمر ووظيفة ملازمة (2) للمسلم في كل مراحل حياته ولا تنقطع إلا بموته: {وّاعًبٍدً رّبَّكّ حّتَّى" يّأًتٌيّكّ پًيّقٌينٍ } [الحجر: 99] . ولذلك سعدوا في الدنيا وعزت بهم الأمة وتقدمت في شتى نواحي الحياة، وبُشر عدد كبير منهم بالجنة قبل موتهم... وممن بشر بالجنة الخلفاء الأربعة ومنهم التجار كعبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وإذا كانت العبودية لغير الله ذلا به يُعَيَّر المرء، فإنّ العبودية عز ووصف تشريف، وانظر إلى تعبير القرآن الكريم ووصفه لأنبياء الله - وهم أفضل الخلق وأشرفهم - إن القرآن يصفهم بالعباد وصفاً واحداً لا ثاني له. قال الله تعالى :{وّاذًكٍرً عٌبّادّنّا إبًرّاهٌيمّ وّإسًحّاقّ وّيّعًقٍوبّ أٍوًلٌي الأّيًدٌي وّالأّبًصّارٌ ، إنَّا أّخًلّصًنّاهٍم بٌخّالٌصّةُ ذٌكًرّى پدَّارٌ ، وّإنَّهٍمً عٌندّنّا لّمٌنّ پًمٍصًطّفّيًنّ الأّخًيّارٌ } [ص: 45 - 47] .وقال تعالى عن نبيه سليمان { نٌعًمّ پًعّبًدٍ إنَّهٍ أّوَّابِ } [ص: 30] وقال عن أيوب {نٌعًمّ پًعّبًدٍ } [ص: 30] وقال عن نوح { إنَّهٍ كّانّ عّبًدْا شّكٍورْا } [الإسراء: 3] مما تقدم يتضح لنا أن العبادة هي الغاية التي خلق من أجلها جميع البشر بما فيهم الأنبياء، ويجب أن تكون الحياة كلها عبادة بالمفهوم الواسع للعبادة وبالنية الحسنة التي تحوِّل الأعمال المباحة إلى قربات وشعائر يتعبد بها المرء ربه تعالى. وبذلك تشرف الحياة ويطمئن القلب ويشعر بالأُنس والعز والقوة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية موضحاً عبودية القلب وأثرها في حياة الإنسان: (وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه، أو يهدوه، خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لأمورهم، متصرفاً بهم. فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر. فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة - ولو كانت مباحة له - يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد ... ثم يضيف: وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب) (3 ). إن الذين عميت بصائرهم واستجابوا لنزعات الشيطان ودعوات الكفر والضلال وغلقت أفهامهم فلم يدركوا من العبودية إلا شعائر معدودة تؤدى في دقائق محدودة من أوقاتهم ثم يفتح كل منهم المجال لنفسه لممارسة ما يريد دون مراقبة لله أو خوف منه، ويظن أنه قام بما عليه بمجرد تأديته للشعائر.. وحينما يسأل عن أي عمل يكون ردّه: هذا أمر لا دخل للدين فيه ويرد عليك السؤال: ما دخل الدين بكذا وما دخل الدين بكذا؟! إن أولئك ستطول حسرتهم وسيعيشون في شقاء وإن توفرت لهم كل نعم الحياة ويخشى أن ينطبق عليهم قول الله تعالى: {فّإنَّ لٌلَّذٌينّ ظّلّمٍوا ذّنٍوبْْا مٌَثًلّ ذّنٍوبٌ أّصًحّابٌهٌمً فّلا يّسًتّعًجٌلٍونٌ }.(5)وكيف لا يكون ذلك وقد ورد في الحديث (ومن أحب قوماً حشر معهم) وهؤلاء يرددون أقوال العلمانيين الملحدين في شرق الأرض وغربها. نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أقوالنا وأفعالنا، ونسأله أن ينير بصائرنا وأن يجعلنا من عباده الصالحين وأن يغفر لنا ما زل به اللسان والقلم وأن يرزقنا مراقبته في السر والعلن وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا إنه ولي ذلك والقادر عليه .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش:
(1) تفسير القرآن العظيم ج 4 ص 238 . (2) كتاب العبودية ص 38 - 39 - 40 . (3) كتاب العبودية ص 95 - 96 (4) المصدر نفسه ص 140 وما بعدها. (5) انظر التفسير الواضح ج 27 ص 94 .


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved