يا خُطى الأيام!!
كم يتراءى سناك جميلاً، فيتلاشى معه تعبُ الزمان ووحشة المكان.. تندكّ نتوءات الأرض تحتك ولا يطأ عليك أحد.. بل تبقين مرسومة على الرمل والتراب وربما الصخر.. فثقتك بالله تحيط بك.. ذكره شعارك، وثناؤه دثارك.. وبذلك تبقين عزيزة الجانب، لا تمحو غِيَرُ -بكسر الغين وفتح الياء- الأيام..
بيد أن ما يحير العقل فيك هو أنك ثقيلة عندما يصل دفق سناك إلى ذروة قمّة الشموخ والرضى عن النفس الذي يعتبر مستحيلاً.. وفلسفتك في هذا الشأن معروفة لدى من تبصّر فيك، فلم يكن الثقل من خصائصك إلا لترسيخ فكرة البقاء والخلود اللذين تنشدينهما لأربابك ممن لا يستهويهم البريق الخاطف لمال أو جاه، سوى عزّة النفس وإبائها لتظل دائما أنوفاً شامخة.. في ظل ثباتك الذي يتحول الصمت فيه إلى قول ناهج منهج العقل والحكمة لا الهوى والنزق.. وعندئذ لا يمكن أن تشي ترانيم النفس في فيافيك بتتبع سراب الأماني العِذَاب -بكسر العين-!!
إن بعض المروءة لم يعد يحتمل مقصورته، فقد ضاع وغدا السعيد من كان الإيمان له سراجاً، حماه الله بالبصيرة الاستدراجا.. مع يقينه أو بيقينه ان الإيمان لا يمنع الفتنة من الطريق، فكان دائم الإلظاظ بذي الجلال والاكرام ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. ومثله في ذلك مثل الأعمى الذي لا يضع قدمه على الأرض إلا بعد اختبار الطريق بعصاه!!
تخطوك الأقدام، يا خطى الأيام اليوم وغداً كما خطتك أمس، فثرى الوطن واحد أسسه إمام عادل هو الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه-.. وابتهجت النفوس ولا تزال - ولله الحمد - لأن الإيمان بالله وحده لا شريك له هو شعار التوحيد على علم وطننا الغالي.. الذي يضم على ثراه أقدس البقاع في الأرض مكة المكرمة والمدينة المنورة، وقد بلغت عمارة الحرمين فيهما مبلغا حضاريا راقيا في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - أيده الله - لم تبلغه من قبل، فلله الحمد والمنّة والفضل والثناء الحسن، ثم للقيادة الرشيدة الدعاء بالتوفيق والنصر والسؤدد لتمضي حضارتنا في طريقها الصحيح، نابذة كل ما يشين إلى صفحاتها الناصعة البيضاء من شوائب ومكدرات، (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).
***
ديدنك الرسوخ على الأديم.. تقصرين أو تطولين من تحت أقدام الذاكرين الله كثيراً والذاكرات والمسبّحين والمسبّحات.. الميسور والأيسر عندهم مبدأ مادام الإنصاف في الطريق.. يحتلّ مكانه، لا تزعزعه الخطى الخرقاء من هنا وهناك.. التي تفهم التواضع ضعفاً والشجاعة تهورا وجنونا والصراحة رزية لا مزيّة.. حسدا وبغضا، لذا قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود |
حبالى كل الليالي إلا لياليك يا خطى الأيام..
وسبب ذلك ومردّه أن من مشاك بثقة وتوكل على بارئه لا يلقى إلا السلام.. لا يفهم القوة حروفاً في دفترك فقط، بل هي ثبات وصمود، وإلا لكانت منقوعة بسمٍّ زعاف.. وهو لا يغفل عن بلاغة القول ولا يبحث سدى في الأوهام، بل يدرك حقيقتك وان كنت متثاقلة بطيئة تتخيرين بين الخطى المكتظة طريقا يناسبك.. ينأى بك عن الشر ويدنو نحو الخير.. لذا لن تطمس الأنانيات، بل إن البذل والعطاء هما سبب اليقظة في عيني مَنْ خَطاكِ.. ناهيك عن إحسان الظن بالخالق المعبود وحده القادر على حماية السائر بك من الغفلة والسهو، ونبذ الهوى، أو التخفيف منه - على الأقل - مهما بلغ الانبهار به مبلغه.. فالانتصار الحقيقي له هو انتصاره على هواه ورغائبه التي لا تنتهي..
وربما قائل يقول إن هذه دعوة إلى التقشف والزهد الكاملين، لكن حسبه ان يتأمل دعاء نبي الهدى والرحمة: (اللهم ما رزقتني فيه مما أحب اجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحبّ اجعله فراغاً لي فيما تحبّ).. فبأبي أنت وأمي يا رسول الله، هكذا توزن الأمور بجوامع كلمك وجميل حديثك!!
يا خطى الأيام!!
إن ثباتَكِ ينسف كل الترهات والأوهام والخزعبلات يخسئ الله بك الشيطان الذي أمكن الله من كشف عنه الغطاء وحدّ بصره من رؤيته شاخصاً في أوجه من أراد السطو به، وما كان ذنبه إلا ان تلا آيات الله البينات عليه، فكان الشيطان - والله أعلم - هو المنكر الذي رآه في وجه من الوجوه أو أكثر فلا حول ولا قوة إلا بالله..
وعلا تسبيحه لربه لا يفتر عنه فاهه وأصبح لسانه ندياً رطبا به، فتهاوى أثر السطو والافتتان.. وتلاشت العنعنات ولم يفلح الاستدراج ولم يبلغ مناه..
|