بعض أفضل أصدقائي، هم من رجال البنوك، وهي صداقة محايدة، لا اقتراض فيها ولا إيداع، وأنا لست زبوناً مهماً لهم، ولست مودعا كبيرا لديهم، وهذا أحد الأسباب لهذه الصداقة المريحة، المسترخية. وعموماً فإن أفضل الصداقات هي التي لا تمتزج فيها بـ(البيزنس)، حيث تكون هناك المخاطرة بفقدانهما معاً.
* والبنكُّيون، قوم ظرفاء، لطفاء في مجالسهم الخاصة، وعلاقاتهم الشخصية، لكنهم عموما، مقطِّبون، صارمون، في مكاتبهم، حين يديرون أموال الناس، المؤتمنة عندهم، وهذا تناقض سلوكي يبعث على الطمأنينة وهو تناقض محمودٌ في مثل هذه المواقع الوظيفية.
* الناس لا يحبون الانفصال عن نقودهم، والفراق بين الإنسان ونقوده فراق أليم وقاسٍ ومع ذلك فالناس يذهبون إلى مؤسسات اسمها البنوك، ويودعون أموالهم راضين واثقين، لدى أشخاص غرباء، ويذهبون إلى بيوتهم ليناموا مطمئنين وفوق ذلك فإنهم يتحملون كل الإجراءات، والتوثيقات والمطالبات، وعندما يذهبون لسحب أموالهم، فالبنك هو المؤسسة الفريدة في الاقتصاديات الحديثة التي تستودعها أموالك راضيا طائعا، وترضى ان يطالبك شخص غريب في نافذة البنك بإبراز هويتك ومطابقة توقيعك لتسحب أموالك التي أودعتها لديهم بملء إرادتك.
* هذه الثقة المطلقة في البنك ورجاله هي التي تعطي للبنك هذه المكانة المهمة في الاقتصاد المعاصر، وهي التي تجعل من متانة النظام البنكي وسلامة الممارسات البنكية، ودقة الرقابة البنكية وصرامتها، أموراً بالغة الأهمية لسلامة الاقتصاد الوطني، ومتانته، وتدعيم الثقة فيه.
* وسلامة النظام البنكي، ومتانته يعتبران من المؤشرات الأساسية لصحة الاقتصاد الوطني ومن الأمور المهمة التي يأخذها في الاعتبار، المستثمرون الأجانب ورجال الأعمال المحليون والمؤسسات الدولية ذات العلاقة عند تقييمهم للوضع الاقتصادي في دولة من الدول، وهي كذلك من العناصر الأساسية لـ(روشتة) الإصلاح الاقتصادي التي يكتبها أطباء المؤسسات الاقتصادية الدولية عند معاينتهم للاقتصاديات المريضة، أو المصابة بعارض اقتصادي طارئ.
* ومما يحمد للمديرين الاقتصاديين والتكنوقراطيين البنكيين، في المملكة العربية السعودية نجاحهم الكبير في إدارة النظام البنكي والابحار به في خضم العقود التنموية الماضية حتى وصلوا به إلى مرفأ مكين.
* تم تأسيس أول بنك سعودي في عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وكان ذلك قرارا مهما، بعد أن بدأت عوائد النفط تتدفق، والمعاملات التجارية والمالية مع العالم الخارجي تضطرد وتزداد والعمالة الأجنبية المساهمة في المشاريع التنموية والخدمية تتدفق ولم يكن من الممكن الاعتماد على مؤسسات الصيرفة التقليدية، أو قنوات التعامل غير المقننة، علماً بأن البنك الأهلي التجاري وهو أول بنك سعودي أسسته عائلة مصرفية عريقة هيأ لها بُعد نظرها وحذاقتها التجارية والمالية، المبادرة بتأسيس هذا البنك وأخذ المباركة الرسمية له وكان العائد على هذه الحذاقة في التفكير هائلاً، منذ ذلك الوقت وحتى الآن على ما أعتقد!
* ثم تزايدت أعداد البنوك بعد ذلك ومعظمها بنوك أجنبية عربية، وأوروبية وأمريكية.
* وقعت بعض العثرات والأزمات وسارعت السلطات النقدية،إلى استيعابها وإصلاحها، والاستفادة من دروسها وسارت المسيرة البنكية في هدوء علماً بأن العادات البنكية المحلية كانت تتركز في معظمها على تمويل التجارة والمعاملات الدولية، والمناقصات الحكومية، وبعض الأنشطة العقارية واقتصرت معظم المعاملات البنكية لكثير من الأفراد والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة على الايداع أو الاقتراض الهزيل، وغير المنتظم وعلى استحياء، في ظل عدم الوضوح التشريعي أو القضائي، وكذلك في غياب المظلة الأخلاقية والدينية، التي تسمح بالتعامل مع هذه المؤسسات المالية، دون شعور بالذنب، أو دون تأثيم وتقريع ظاهر، أو باطن.
* وعندما جاءت الطفرة النفطية في السبعينيات، وظهر عهدُ النقود الكثيرة الرخيصة، واجه النظام البنكي تحدياً كبيراً، فالنظام البنكي قد واجه زمن الانكماش وشد الحزام بسهولة أكبر لأن من طبيعة هذه المؤسسات ان تكون حذرة وشديدة التحفظ، ولكن الانضباط، والمحافظة على التوازن يكونان أكثر صعوبة، في أزمنة التدفقات النقدية الهائلة وارتخاء عادات الناس تجاه النقود، وزيادة الضغوط على البنوك لكي تكون أكثر تساهلاً، وأقل حذراً، وانضباطا وكشف حساب النظام البنكي في المملكة العربية السعودية عن تلك الفترة، هو كشف مختلط من الانضباط والتساهل، والرزانة والهرولة، والارتخاء والتنبّه.
* واستطاعت السُّلطات الاقتصادية والنقدية ان تستوعب مشاكل تلك الفترة بكل الحزم والانضباط والحذاقة، كما ان القيادات البنكية تمكنت في الثمانينيات ان تتعامل مع مخلفات تلك المرحلة الفاترة وتعيد ترتيب بيوتها من الداخل على أسس مهنية، وممارسات بنكية صائبة وتعينها على ذلك سلطات نقدية ماهر، وبصيرة، إلى حد كبير.
* وبرز في المملكة العربية السعودية في نهاية الثمانينيات نظام بنكي قوي وسليم ناضج التجربة حديث البنية تديره قيادات بنكية سعودية وأجنبية ذات كفاءة عالية، وخبرة ممتازة.
* وليس دليلاً على ذلك أوضح من ان البنوك السعودية كانت أسبق بنوك المنطقة ارضاء لشروط الملاءة البنكية الجديدة والمتشددة التي وضعها البنك الدولي للتسويات في بازل، ولا تزال هذه البنوك تستمتع بترتيب وتقييم دوليين عاليين في قائمة البنوك الدولية.
* ما هو الدور الذي يستطيع أن يساهم به هذا النظام البنكي القوي، والسليم والمليء حتى التخمة، في دفع عجلة التقدم الاقتصادي وتحقيق الاقتصاد الوطني لامكاناته الهائلة، وطاقاته الضخمة؟ وهل نحن راضون أو أصدقاؤنا البنكيون راضون، عن المساهمة، والانهماك الحاليين للبنوك السعودية في النشاط الاقتصادي الوطني؟
|