و«المستغربون» على أي مستوى تجاهلوا أن «الصهيونية العالمية» المجرَّمة من كل الشرفاء في العالم ورمزها القائم «إسرائيل» ما كان لها أن تكون لولا مواطأة الغرب ودعمه وحمايته، وهذا الميل مسقط لدعاويه، ومضر بمصالح الأمة العربية، ومحفز قوي على احتقان الشعوب العربية، وليست الخطيئة قصراً على مجرد الوجود الصهيوني وحسب، وإنما تمتد إلى آثاره ومقتضياته، فالصهيونية لا يقر لها قرار بالوحدة العربية، ولا بوحدة أقاليم الدولة الواحدة، ولا بالوحدة الفكرية، ولا بقيام أنظمة دستورية، وكيف يحتمل العربي المسلم تشريد خمسة ملايين فلسطيني، ويقبل بجمع الشتات اليهودي في قلب الوطن العربي، ومع التشريد والتوطين فإن المحتل والمستوطن لن يسعدهما قيام «الديمقراطية» التي يخادعان بها، وكيف يرضي الغرب بقيامها في بلاد أذن لنفسه أن يجعلها سوقاً لمنتجاته وميداناً للعبة ومختبراً لتجاربه، ولهذا فإنه لن يغض الطرف عن أي مبادرة إيجابية في أي قطاع: دستوري أو تعليمي أو اقتصادي أو صناعي، وكل الذي يشغله المحافظة على تفوق الكيان الصهيوني في كل مجال، ولن يتأتى له تحقيق ذلك في ظل المبادرات الإيجابية التي تخل بالتوازن، ولن يذعن إلا مكرهاً أو مضطراً، ولو اجتمعت كلمة العرب، وخلت ارضهم من الاشياع والاتباع، لكانت لهم القدرة على ممارسة الضغط، ووضع الغرب أمام مسؤوليته.
وأخطر ما يواجهه الشرفاء ارتباط المصالح الأمريكية الإسرائيلية، وقيام المصالح الإسرائيلية على استمرار تفوقها، وترسيخ التخلف في الوطن العربي، وتأصيل الفرقة: الفكرية والسياسية والعرقية والطائفية، واختراق الأجواء والأدمغة، وتعميق بؤر التوتر، والحرص التام على قيام كيانات سياسية غير شرعية، لا تملك الاستمرارية ولا الاستقرار بالإدارة الشعبية، وإنما تملكها بالثكنات العسكرية، وبحبل من الدول ذات المصالح، وما من أحد من المستغربين يود استدعاء مثل هذه الحقائق الدامغة، لأن مجرد تداولها كشف لسوآتهم.
وكيف يحلو للمستغربين التعذير أو التبرير أو الركون للغرب أو الثقة باطروحاته ووعوده، وهم يرون غزوه العسكري وتآمره الفكري رأي العين، متمثلة بامتصاص الخيرات، وإثارة العداوات، والتدخل في الخصوصيات، والاحتلال والقمع، ودعم الاستيطان، وتحريض الأقليات، والحد من إعداد المستطاع من القوة ومن رباط الطائرات والراجمات، وحجب «التكنولوجيا» الانتاجية، وإشاعة الاستهلاكية، والتستر على ما تلاقيه الشعوب من ويلات على يد أبنائها، مع قذف الطعم المسمم عبر مفاهيم جذابة كـ «حقوق الإنسان» و«المرأة» و«الحرية» و«الديمقراطية».
إن ضعف الشعوب العربية، وضعف كياناتها السياسية، وخوف الدول العربية من بعضها، واختلاف أحلافها ومصالحها وكل شيء فيها، مواطأة المصالح الاستعمارية للضعف والاختلاف، كل ذلك سيئة وأسوؤه يحتاج إلى تحرف جماعي، يستبعد المثاليات والعنتريات والتنازع وسيطرة الإحباطات، وتأثير العقد النفسية والمزايدات والتعذيرات، ويتوسل لمواجهة الواقع المتردي بالحكمة والأناة والتروي والعلم والعمل، وفق الإمكانيات المتاحة، وعلى ضوء الظروف القائمة.
ولسنا بدعوتنا محرضين على منازلة الغرب، ولا داعين لمقاطعته، ولا حائلين دون الاستفادة منه، ولا متحفظين على التفاعل الإيجابي معه، وإنما نريد تعاملاً ينطلق من الأشياء على حقيقتها، ويتوفر على الندية والتكافؤ، ولا شك أن تتابع النكسات، وانكشاف اللعب، وبوادر الغزو والتآمر يفضح تهالك المستغربين على ما تروجه المؤسسات الغربية وبوادر الغزو والتآمر يفضح تهالك المستغربين على ما تروجه المؤسسات الغربية من افتراءات تؤثر على السذج والمتسطحين.
ولقد سمعنا من يقول: إن عزلة المملكة عالمياً ستكون بسبب مناهجها، وعايشنا مروجين لهذه الفرية، وكأن أحداث التفجيرات فرصة سانحة للمسخ والإضعاف والتبعية، وإشكالية الأمة في «مناصرين» لا يحسنون المناصرة، وفي «متطرفين» لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وفي «مستغربين» يخادعون أمتهم، وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي «مستفزين» يغثون في صخبهم، وفي «موبوئين» بعقد الأبوية ورفض التغيير، وفي «حكام» متورطين في اللعب أو المجازفات، فالمناصر الجاهل، والمتطرف المدمر، والمستغرب المواطئ، والمتمرد المستفز، والحاكم المجازف عقبات عصية، تتعثر بها مسيرة الأمة، ويرتاب منها العقلاء، ويتجرع مرارتها الحكام الصابرون على اللأواء، وجيلنا التعيس عايش انتهازيين، هيجوا الشعوب على قادتهم، ومفكرين منحرفين، شككوا الرأي العام بثوابت دينهم، وإعلاميين مأجورين، استعدوا الغوغاء على مؤسساتهم، وحكاماً مجازفين متسلطين، ساموا شعوبهم سوء العذاب، وحين سقطت الأقنعة، وتعرت الحقائق، طفق هؤلاء جميعاً يخصفون من كل شاخص ما يستر مقترفاتهم، ووجدوا من يواطئهم على الإصرار على الحنث العظيم.. وهل من حنث يبلغ درك الخيانة للأمة والوطن؟ ومن المستحيل حسمها بين عشية وضحاها، والمجازف كالمثبط حذو النعل بالنعل.
والتجاهل والتناسي والغفلة والتغفل والغباء والتغابي سمة المصطرعين في المشهد السياسي والفكري، ولو علموا وذكروا وتنبهوا لكان أن تسللوا لواذاً، خجلاً من قبح ما صنعت أيديهم، وقل أن تجد أحداً منهم ابتدر القضايا، واستلها كما الشعرة من بنية الأمة، وإنما الجميع أصداء لما يطرحه الإعلام الغربي، وما تفيض به مطابخه السياسة، وها هم اليوم في سفسطات تلهيهم عما يجري في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان والسودان وما الجدل البيزنطي حول «المناهج» و«قضايا المرأة» و«الإطصلاح» إلا مؤشر غفلة مضرة، وما كانت تلك القضايا حاضرة المسرح الإعلامي، لولا أن جاء بها الغرب، لشغل المشاهد عما يجري من قتل وتفتيت وتشريد، ولو سألت مستغرباً عن حقيقة ما يغلي في مطابخ الغرب، وعما يراد بالعالم المستضعف، وعما يدور في المشاهد من مؤامرات ومواطآت وانتهاكات مؤلمة، تطال العقائد والأنفس والأوطان والأعراض والأموال لما تجاوز علمه ما يروجه الغرب عن «الإرهاب الإسلامي» و«الاصلاح السياسي» و«حرية المرأة» و«تغيير المناهج» ذلك أنه رهين ما تفرج عنه المؤسسات السياسية الغربية وسائر المنظمات التي تخادع الناس بدراسات وإحصائيات لا أساس لها من الصحة، وإشكالية هذا النوع من التبعيين أنه لا يفرق بين الوقوعات الفردية والمقاصد المبدئية، ولا بين مسؤولية المقترف وبراءة المبدأ، فأي الفريقين أحق بالمقت؟: القاتلون للأبرياء المخلون بالأمن، أم المواطئون للأعداء، المعذرون لمقترفاتهم وتجاوزاتهم، المشرعنون لممارساتهم، أم المقامرون بمقدرات الأمة، أم المزيفون لوعيها المغررون بشبابها، أم الحداثويون المستفزون للرأي العام بتجاوزاتهم القولية؟ أحسب أن جميع أولئك في السوء والإساءة سواء.
لقد مس الأمة الضر من الإرهاب، ومسها الضر من الاستغراب، ومسها الضر من عقدة الغزو والتآمر، ومسها الضر ممن يركنون إلى الذين ظلموا، ومسها الضر من المغامرات والمقامرات، ومسها الضر من تدنيس مقدساتها وإفساد قيمها الدينية والأخلاقية والفنية.
وما نزل هؤلاء جميعاً من السماء كما الكسف، وما انشقت عنهم الأرض كما اللغم، ولكنهم جميعاً منتج أوضاع قائمة، وسليل أنساق متعددة، ربما انفقنا الجهد والمال والوقت على تشكلهم.
ومصائب الأمة في الأنساق المنسوجة على غير مراد الحق، وفي السياقات المعاشة بكل ما هي عليه من تخلف، وفي الاندفاع الأهوج لإصلاح كل شيء في ظل العوائق الذاتية والغيرية، أو التردد الذي يترك الأمور على ما هي عليه، ولا نجاة للأمة إلا بحفظ التوازن، والإيغال في كل شيء برفق، وفهم طبائع الأشياء، وتفكيك بنية الأمة بأيد وطنية رفيقة، أيد تحسب للواقع حسابه، وتضع للإمكانيات مكانها، تمهيداً لإعادة صياغتها عبر كل المكونات: الذهنية والمعرفية والإجرائية، مستحضرة عروبتها وإسلاميتها ومقتضيات ذلك كله، ولن يتحقق الإصلاح المراد حتى تقوم الثقة مقام الشك، والعزم مقام التردد، وحتى يسلم الجميع لذوي الحل والعقد من علماء أفذاذ ومسؤولين شرفاء ناصحين، أثبتت الوقائع والتجارب سداد رأيهم، ونفاذ بصائرهم، أما إعجاب كل ذي رأي برأيه، وذهاب كل متعالم بما توصل إليه، أو القول بعصمة المسؤول وتساميه فوق المساءلة والنقد، أو جلد الذات المسلمة دون غيرها من المقترفين، فذلك العناد والفساد.
وحين تعترف النخب العربية: إسلاموية وحداثوية وليبرالية وعلمانية وظلامية واستغرابية بأنها طرف ضالع في الخطيئات، تكون الخطوة الأولى في طريق النجاة، وما لا مراء فيه أن طائفة من المفكرين والعلماء والساسة جزء من هذا النسيج، لأنهم سمعوا فسكتوا، وشاهدوا فأغمضوا، وخدعوا فصدقوا، وصنع الإرهاب خارج أرضهم ثم حملوا أوزاره فقبلوا، حتى شكوا في أنفسهم، وغلا ارتيابهم من مؤسساتهم:- التربوية والدينية والسياسية، ولما يزل المغلوب العربي يقول ما قالت:«حذام»، ولما يفكر بعد بأنه جزء من هذه التركيبة المتنافرة.
لقد بوركت أفعال في منتهى السخافة، ومجدت شخصيات في منتهى التفاهة، وزكيت مؤسسات في منتهى البدائية، وقعد مع أقوام يخوضون في آيات الله، وتولى الإعلام العربي كبر التزكية والدفاع والترويج، ولو أننا أعدنا قراءة ما سلف بالبصائر والأبصار، لكان أن سقطت أقلام، وتعرت شخصيات، وانكشفت سوءات، ولكننا قوم بلا ذاكرة، قوم لحظيون، نتطلع لما سيقال، ولا نمحص ما قيل.
لقد أشرت في أكثر من مناسبة إلى تهافت طائفة من النخب العربية على المتداول في المشاهد الغربية، وما تفيض به سائر مؤسساته، وتبنيهم الطوعي لتلك الظواهر والمذاهب، دون معرفة بجذورها الفلسفية، ودون تأصيل معرفي إسلامي، مع تقصير بحاجات الأمة، وعجز عن المبادرات، وها نحن نجد في الإعلام العربي، وفي مراكز المعلومات، وعبر المؤسسات المشبوهة ما يغثي النفوس من مسايرة وافتراء، ومع كثرة اللغط الرخيص لم تزل أوزاع من المتصدين للطرح الفكري والديني والسياسي تخلط بين الثابت والمتغير والمقدس والمؤنسن، وتشكك في قدرة الفكر الإسلامي على أدنى مشاركة حضارية، وتدعو لتبادل المنافع دون رد إلى المرجعية، فإذا طلبنا- على سبيل المثال- احترام الحجاب في «فرنسا»، فلنقبل بتبرج الفرنسيات في البلاد، وما أولئك وهؤلاء في مقولاتهم تلك إلا مسخنون لما غب من الطبيخ الاستشراقي، وراغبون في الاستغراب، وليست لأحد من أولئك مبادرات، ولا معايير، ولا مرجعيات، ولا ضوابط لسيل المطلحات.
فما الوسطية؟ وما التطرف؟ وما حد التعددية المذهبية؟ وما ضوابط التقارب؟ بل قد نسأل: ما الإسلام؟ وما الإيمان؟ وما الإحسان؟ فكل طائفة تفهم الأشياء وفق مرادها، وعلى ضوء مصلحتها، وحين نطلق التعويل على الإسلام، فأي إسلام نريد؟ ذلك أن لكل فرد تصوره ومفهومه، إن هناك خللاً في البنية الفكرية أدت إلى تعدد الموازين والضوابط الشرعية واختلاف القواعد والأسسس العقدية، وبالذات حول قضايا الجهاد والبراء والولاء، وحدود التعامل مع غير المسلم، كما أن هناك غياباً أو تغييباً لمقتضيات الدستور المعول عليه، مع تمرد مكشوف، على المرجعية: نصية كانت أو شخصية.
وإذا كان النخبويون تخادعهم المؤسسات السياسية الغربية المتآمرة فإن العامة تجتالهم المؤسسات الإعلامية المغرضة، فيما تكون الدهما نهباً لكل ناعق، وحينئذ لا يكون هناك قاسم مشترك يدرأ عن الأمة الفوضوية، وأخطر ما تعانيه الأمة ما يتعرض له شبابها من تعبئة فكرية ودينية وسياسية ليست على مراد الحق، وليس أدل على ذلك من اقتراف عمليات التفجير باسم الدين، وعلى أيدي شباب مسلمين، نحقر عبادتنا عند عبادتهم، غير أنهم- وكما أخبر الصادق الأمين:- «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، وكل يدعي أنه «الوسطي» حتى الذي يخوض في الدماء، ويكفر الدهماء، وينقض الميثاق، يركنون لإعلام الغرب ومؤسساته، والعارفون يغضون الطرف طوعاً أو كرهاً عن زعامات لعبت دور البطولة الزائفة، ثم ارتدت على أدبارها، الأمر الذي حفز«سلفان شالوم» وزير خارجية العدو الإسرائيلي إلى القول :« إن إسرائيل تسعى إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع عشر دول عربية»، وهذه العلاقة مشروطة بالتخلي عن أسلحة الدمار الشامل، فهو المنعم المتفضل، ومن ثم لا ينعم إلا بشرط.
لقد خنعت بعض الزعامات لمطالب الغرب، لأنها اقترفت على مدى عمرها السياسي خطيئات بحق أمتها وبحق الآخرين، حتى إذا مكنت من نفسها، بالاعتراف والتحمل، قالت: نعم، لتنجو من كسر العظم وحز الرقاب، واضطرت إلى فتح أبوابها للمحققين والمراقبين والمفتشين والمدمرين للسلاح، فيما قالت «كوريا» المتوازنة في الفعل والترك: إن قول نعم، والقبول بتدمير السلاح «ضرب من الجنون».
لقد آن الاوان للكف عن المزايدات الرخيصة وخلخلة تلاحم الأمة والتلاعب بمثمناتها، ولم يبق بعد كل هذه الاحباطات إلا العمل على وضع ارتيادية- «استراتيجية» - سياسية وفكرية وإعلامية توقف الانهيارات الفكرية والأمنية، وتحول دون التنازلات الموجعة، وتمكن القادة الناصحين لأمتهم من بدء الخطوة الأولى في سبيل الإصلاح الشامل، وعلى الخطاب «الإسلاموي» المتعدد الأصوات والانتماءات الخلوص من الفوضى والتعددية والحدية، والعمل على تحديد المرجعية والمفاهيم، وتحرير العقل من تراكمات الملل والنحل وتفعيله، والقطيعة مع أي خطاب جامد متعصب أبوي إقصائي حدي متطرف، وإشاعة التسامح والتيسير والوسيطة وحسن الظن والتماس المخارج لمن خانه التعبير، وفق معايير وضوابط لا تقود إلى التمييع والانمساخ وخلط العذب الفرات بالملح الأجاج، وعلى الخطابات «الراديكالية» و«الليبرالية» والانبطاحية المتعلمنة والمتعولمة والمتعالمة والظلامية الدخول في الدين كافة، والرد إلى الله، والرسول، وتجنب الاستفزاز والإثارة، فاللحظات الحاسمة تتطلب قرارات حاسمة.
|