يا باغي الخير أقبل، يعيش المسلمون موسماً عظيماً، وأياماً فاضلة، رفع الله شأنها، وأعلى مكانها، وميزها على بقية أيام العام، وجعلها غرة في جبين الدهر، ألا وهي أيام العشر، أعني العشر الأول من ذي الحجة، هذه الأيام المباركة التي اختصها الله بمزيد من الشرف والكرامة، وجعلها ميداناً فسيحاً للمنافسة في الخيرات، والمسابقة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات، وموسماً عظيماً للتجارة الرابحة مع الله، حيث تضاعف فيها الحسنات، وترفع الدرجات، وتكفر السيئات، وإن شرف هذه الأيام أمر معلوم من دين الإسلام، وقد تواطأت نصوص الكتاب والسنة على التنويه بفضلها، والإشادة بمكانتها، والإعلان عن تعظيم الله لشأنها، فقد أقسم الله بها، تشريفاً لها، وتنبيهاً على فضلها وعظيم قدرها، فقال تعالى:{وّالًفّجًرٌ><ه1ه> ولّيّالُ عّشًرُ><ه2ه> والشَّفًعٌ والًوّتًرٌ><ه3ه>} قال ابن كثير: {ولّيّالُ عّشًرُ} المراد بها: عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف، ثم ذكر أقوالاً في المراد بالشفع والوتر، منها أن «الوتر» هو يوم عرفة لكونه التاسع، والشفع: هو يوم النحر، لكونه العاشر، وهذان اليومان داخلان في قوله تعالى: {ولّيّالُ عّشًرُ} ولكنه خصهما بالقسم، وأفردهما بالذكر اهتماماً بهما، وبياناً لمزيد شرفهما، وهذه الأيام العشر، هي الأيام المعلومات التي قال الله تعالى عنها: {لٌيّشًهّدٍوا مّنّافٌعّ لّهٍمً ويّذًكٍرٍوا اسًمّ اللَّهٌ فٌي أّيَّامُ مَّعًلٍومّاتُ} قال ابن عباس: «الأيام المعلومات» أيام العشر رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، وقال الثعلبي في تفسيره «قال أكثر المفسرين: الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، وإنما قيل لها معلومات، للحرص على علمها، من أجل أن وقت الحج في آخرها»، أما السنة النبوية، فقد حفلت بأحاديث كثيرة، تدل على فضل هذه الأيام، وأنها أفضل أيام العام، وأن العمل فيها أعظم أجراً، وأحب إلى الله، وأزكى عنده، وأحظى لديه من العمل فيما سواها من الأيام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن، أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء» رواه البخاري وغيره، وروى الدارمي والبيهقي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عمل أزكى عند الله، ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله..» الحديث، قال القاسم بن أبي أيوب: «وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً، حتى ما يكاد يقدر عليه»، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على أن عشر ذي الحجة، هي أفضل أيام السنة على الاطلاق، فإن الأيام في قوله «ما من أيام» نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، ثم إنها مؤكدة بـ«من» البيانية، وهي مزيدة لاستغراق النفي، فيكون المعنى: ما من أيام الدنيا أيام أفضل عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن منه في هذه الأيام العشر، وقد صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الإمام أحمد بسند صحيح فقال: «ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد»، ولأجل هذا اختلف العلماء: أيهما أفضل عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟ قال ابن كثير: «وبالجملة، فهذه العشر - يعني عشر ذي الحجة - قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير، لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيرها، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه، وقيل: ذاك أفضل، لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وتوسط آخرون، فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذاك أفضل، وبهذا يجتمع شمل الأدلة» وقال ابن القيم: «فإن قلت: أي العَشّّْرين أفضل؟.. فالصواب أن يقال: ليالي العشر الأخير من رمضان، أفضل من ليالي عشر من ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان، وبهذا التفضيل يزول الاشتباه»، والحقيقة أنه لا يهمنا كثيراً أي الأقوال أرجح؟ بقدر ما يهمنا أن ندرك فضل هذه العشر، وعظم شأنها عند الله، حتى نحرص على اغتنامها، والمنافسة على الخير فيها، وبهذا نعلم مقدار ما نحن فيه من تفريط وإهمال تجاهها، ومن غفلة عنها وتقصير في اغتنامها، وإن المرء ليُسر سروراً عظيماً حين يرى اجتهاد الناس في العشر الأواخر من رمضان، واهتمامهم بها، وحرصهم على اغتنام أوقاتها، ولكنه يعجب أشد العجب، حين يرى هؤلاء الصالحين أنفسهم، لا يحفلون بهذه الأيام المباركة، ولا يجتهدون فيها اجتهادهم في العشر الأواخر من رمضان، مع أن هذه الأيام أفضل من تلك الأيام كما سبق، فكانت جديرة بأن يهتم بها أكثر، وأن يحرص المؤمن على اغتنامها بشكل أكبر ويستغل كل لحظة من لحظاتها فيما يقربه إلى الله تعالى ويرفع درجاته عنده، وقد دلت الأحاديث السابقة على أن العمل الصالح في عشر ذي الحجة أحب إلى الله، وأفضل عنده من العمل نفسه لو عمل في غيرها من الأيام، وأن العبادة فيها أزكى عند الله وأعظم أجراً من نفس العبادة، لو فعلت في غيرها من أيام العام، فإذا تصدقت بمائة ريال مثلاً في هذه العشر، فإنها أعظم أجراً وأحب إلى الله من التصدق بهذه المائة في شهر شعبان أو رمضان، أو غيرهما من أشهر العام، وإذا صليت ركعتين في هذه العشر، فإنهما أحب إلى الله من ركعتين مثلهما تصليهما في غير هذه العشر، وعلى ذلك فقس بقية الأعمال، بل دلت هذه الأحاديث على أن العمل في هذه الأوقات الفاضلة، وإن كان مفضولاً في الأصل، فإنه أزكى عند الله، وأحب إليه من العمل في غيرها، وإن كان فاضلاً، ولا أدل على ذلك من كون العمل فيها أعظم من الجهاد في سبيل الله، الذي هو من أفضل الأعمال، بل هو ذروة سنام الإسلام، والذي يتضمن قطف الرؤوس، وازهاق النفوس، وتقطيع الأعضاء، وإسالة الدماء، ومع ذلك فالعبادة في هذه العشر أفضل من سائر العبادات في غيرها، وأفضل من أنواع الجهاد كلها، إلا النوع الذي استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إلا رجل خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء»، وإذا كان الأمر كذلك، وعلمت أيها المسلم أن الله يحب العمل في هذه الأيام ويباركه ويزكيه، فحريٌّ بك أن تجتهد في هذه الأيام المباركة، وتحرص على اغتنام كل لحظة من لحظاتها، وأن تعمرها بأنواع الطاعات والقربات، التي تزيدك قرباً من ربك، وتكون سبباً لسعادتك وفلاحك في دنياك وآخرتك، فإن الأيام مراحل الآجال، ومخازن الأعمال، وليس لك أيها الإنسان من عمرك إلا ما قضيته في طاعة ربك، واستودعته عملاً صالحاً تجده أحوج ما تكون إليه، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى بقلبٍ سليم، {فّمّن ثّقٍلّتً مّوّازٌينٍهٍ فّأٍوًلّئٌكّ هٍمٍ المٍفًلٌحٍونّ><102>ومّنً خّفَّتً مّوّازٌينٍهٍ فّأٍوًلّئٌكّ الذٌينّ خّسٌرٍوا أّنفٍسّهٍمً فٌي جّهّنَّمّ خّالٌدٍونّ><103>}، وإن هذه المواسم الفاضلة لمن أعظم نعم الله على عباده، حيث تستحث هممهم وتشحذ عزائمهم للمسارعة إلى الخيرات ومجاهدة النفس في فعل الطاعات واجتناب المنكرات، حتى تزكو نفوسهم، وترق قلوبهم، وتنجلي عنها تلك السحب الكثيفة من الغفلة والقسوة، وحتى تكون هذه الطاعات غذاء لأرواحهم، وأنساً لقلوبهم، وسبباً لسعادتهم في دنياهم وآخرتهم. ولله در القائل: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان ومما يدل على فضل هذه العشر أن الله عز وجل شرع فيها من الأعمال الجليلة الفاضلة ما لم يشرعه في غيرها من الأيام، وأنها تختص باجتماع أمهات العبادة فيها من الصلاة والصيام والصدقة والحج والأضاحي يوم العيد، ولا يتأتى ذلك في غيرها، ولهذا فإن إدراك هذه العشر المباركة نعمة عظيمة جليلة، وإن واجب المسلم استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بالاجتهاد في الطاعات واستباق الخيرات،{وفٌي ذّلٌكّ فّلًيّتّنّافّسٌ المٍتّنّافٌسٍونّ} وإن أفضل ما تقرب به العباد إلى ربهم القيام بما افترضه عليهم وأداؤه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» فدل الحديث على أن فضل ما تقرب به العبد إلى ربه، وأحبه إليه هو أداء ما أوجبه الله عليه، ومن أعظم الواجبات وأولاها بالاهتمام والعناية الصلوات المكتوبة، فينبغي لك أيها المسلم أن تحرص غاية الحرص على إقامة هذه الفرائض وتكميلها، ولا يكن حالك في هذه الأيام الفاضلة كحالك في غيرها، من التكاسل عن الصلاة، أو تأخيرها عن وقتها، أو تفويتها مع الجماعة، أو الغفلة عن التدبر والخشوع فيها، وهكذا في بقية الواجبات، من بر الوالدين، وصلة الأرحام، وأداء الحقوق الواجبة، ومن الواجبات التي تتأكد في هذه الأيام التوبة الصادقة النصوح، فإن التوبة واجبة في كل وقت، ومن كل ذنب، ولكنها في هذه المواسم الفاضلة أوجب، وآكد، وصاحبها أحرى بالقبول والإجابة، قال الله تعالى {وتٍوبٍوا إلّى اللَّهٌ جّمٌيعْا أّيٍَهّا المٍؤًمٌنٍونّ لّعّلَّكٍمً تٍفًلٌحٍونّ}، وإذا اجتمع للمسلم توبة نصوح، مع أعمال صالحة، في أزمنة فاضلة، فما أحراه حينئذ بالفلاح والتوفيق، وأن تقبل توبته، وتغفر حوبته، وتقال عثرته، وتدمح زلته، بل وأن تبدل سيئاته حسنات كما قال تعالى {فّأّمَّا مّن تّابّ وآمّنّ وعّمٌلّ صّالٌحْا فّعّسّى" أّن يّكٍونّ مٌنّ المٍفًلٌحٌينّ}، وقال {وإنٌَي لّغّفَّارِ لٌَمّن تّابّ وآمّنّ وعّمٌلّ صّالٌحْا ثٍمَّ اهًتّدّى"} والتوبة بالنسبة للحاج أوجب عليه من غيره، لأن قبول حجه، وتمام أجره، مشروط بترك الرفث، وهو الجماع ومقدماته، والفسوق، وهو المعاصي بأنواعها، كما قال تعالى {الحّجٍَ أّشًهٍرِ مَّعًلٍومّاتِ فّمّن فّرّضّ فٌيهٌنَّ الحّجَّ فّلا رّفّثّ ولا فٍسٍوقّ ولا جٌدّالّ فٌي الحّجٌَ}وترك الفسوق لا يتم إلا بالتوبة الصادقة من جميع الذنوب، والتوبة الصادقة لا بد فيها من ثلاثة شروط: الإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، والعزم على عدم العودة إليه مرة أخرى، فإن أقلع عن الذنب في موسم الحج وهو عازم على العودة إليه بعده، فإن هذا لم يترك الفسوق على الحقيقة، وتوبته إنما هي توبة الكذابين، فلا يتحقق له ذلك الوعد النبوي الكريم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» متفق عليه، ومما يشرع في هذه الأيام الصيام، فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومها، فقد ثبت من حديث حفصة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر»، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، كيف وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» رواه البخاري ومسلم، فاختص الصيام لنفسه، ليبين عظيم شرفه عنده، وشدة محبته له سبحانه، وقال: «وأنا أجزي به» فأضاف الجزاء إليه من غير اعتبار عدد معين، والعطية على قدر معطيها، فما بالكم بأكرم الأكرمين؟ وأجود الأجودين، فيوفي الصائم أجره بغير حساب، ويجزيه جزاء عظيماً لا حصر له ولا عد، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً» متفق عليه، الله أكبر، ما أعظمه من أجر، وما أجزله من عطاء، صيام يوم واحد ابتغاء وجه الله تعالى لا رياء فيه ولا سمعة ولا طلب لعرض دنيوي، يباعد الله به بين صاحبه وبين النار مسيرة سبعين عاماً!! فما بالكم بمن يصوم تسع ذي الحجة كلها، هذه الأيام التي خصصت بمزيد من الشرف والكرامة، فإن عجزت أيها المسلم، وضعفت همتك عن صيام التسعة كلها، فلا تعجز عن صيام ثلاثة أيام منها، من أولها أو آخرها، فإن صيام ثلاثة أيام من كل شهر سنة متبعة، فإذا كنت تفرط في صيامها كل شهر، فلا تترك صيامها في هذه العشر، فإن شغلت عن هذا، أو قعدت بك همتك، فإياك أن يفوتك صيام يوم عرفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن صيامه: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» رواه مسلم، وهذا إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يشرع له صيامه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمه في حجه، وحتى يتقوى بالفطر على الذكر والدعاء في ذلك اليوم العظيم، ومن أفضل ما يشرع في هذه الأيام المباركة، كثرة التكبير والذكر بجميع أنواعه من تسبيح وتهليل وتحميد ودعاء واستغفار وقراءة قرآن، لقوله تعالى: {ويّذًكٍرٍوا اسًمّ اللَّهٌ فٌي أّيَّامُ مَّعًلٍومّاتُ}، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» والاقتصار في الآية على الذكر، وأَمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار منه دون غيره من العبادات، دليل على أنه من آكد العبادات والشعائر في هذه الأيام العشر، وقد أدرك ذلك سلف الأمة رضي الله عنهم، فكانوا يلهجون بالتكبير منذ دخول العشر، ويعلنونه في بيوتهم ومساجدهم وأسواقهم، وأماكن أعمالهم، ويذكرون الله تعالى قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ففي صحيح البخاري: «وكان ابن عمرو وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما»، وفيه أيضاً: وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيراً»، والآثار في هذا الباب كثيرة، ومنها نعلم أنه يستحب الإكثار من التكبير والجهر به للرجال والنساء، إلا إذا كانت المرأة بحضرة رجال أجانب فلا تجهر به، درءاً للفتنة، والتكبير في هذا الزمن أصبح من السنن المهجورة، ولا سيما في أول العشر، فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فحري بكل مسلم أن يحرص على إحياء هذه السنة، فيفوز بأجر العمل، وأجر إحياء سنة تكاد تندثر، وأما صفة التكبير، فليس له صفة مخصوصة يجب الالتزام بها، والأمر في ذلك واسع، والمقصود هو كثرة الذكر والتكبير على أي صفة مشروعة، وقد ورد عن السلف صفات متعددة، والمنقول عن أكثرهم أنهم كانوا يقولون: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبرهم الله أكبرهم ولله الحمد، وكان بعضهم يكبر ثلاثاً ثلاثاً، وبعضهم يكبر في الأولى ثلاثاً، وفي الثانية مرتين، وبعضهم كان يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا، والتكبير في هذه الأيام نوعان: مطلق، ومقيد بأدبار الصلوات، أما المطلق فيبتدئ من دخول عشر ذي الحجة إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وأما المقيد بأدبار الصلوات، فيبتدئ بالنسبة لغير الحجاج من فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وبالنسبة للحجاج من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وهذا هو أصح الأقوال، وهو الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة ومن بعدهم، وظاهر النصوص: أن التكبير المقيد بأدبار الصلوات شامل للمقيم والمسافر، والجماعة والمنفرد، والصلاة المفروضة والنافلة، وأما مكان التكبير بعد السلام فهو قبل الشروع في التهليل والله أعلم، ومن خصائص هذه الأيام العشر: مشروعية الحج فيها، وهو من أفضل ما يعمل في هذه الأيام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة» حديث صحيح رواه الترمذي والنسائي، ويقول عليه الصلاة والسلام: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» متفق عليه، والحج ركن من أركان الإسلام، وهو واجب في العمر مرة على كل مسلم بالغ عاقل مستطيع للحج ببدنه وماله، فإن كان ذا مال، ولكنه عاجز عن الحج بنفسه بسبب كبر سنه أو مرضه الذي لايرجى شفاؤه فإنه يجب عليه أن يوكل من يحج عنه، وإن كان عجزه يرجى زواله كالمرض الطارئ، فإنه ينتظر حتى يشفى منه ثم يحج، فإن مات قبل تمكنه، حج عنه من تركته. والواجب على المسلم المبادرة إلى الحج عند توفر شروطه فيه، فإنه لا يدري ما قد يعرض له من موت أو مرض أو شغل أو مانع يمنعه من أداء ما أوجبه الله عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :«تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» حديث حسن رواه أحمد وغيره، وصح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانياً» وهو وإن كان موقوفاً على عمر، فإنه في حكم المرفوع، لأن عمر لا يجزم بمثل هذا من قبل نفسه، وقال أيضاً: «لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جدة - أي غنى - فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين»، رواه سعيد بن منصور في سننه، ومن فضل الله علينا في هذا الزمان أن يسر لنا الأسباب، وذلل الصعاب، وقرب المسافات، نفقات يسيرة، ومراكب فارهة مريحة، وأمن وارف، وعيش رغيد، وأيام قلائل قد لا تزيد عن أربعة أيام، فما أجدرك أيها المسلم بشكر هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، فإن الحج من أكبر أسباب تكفير السيئات، ورفعة الدرجات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :«من حج فلم يرفق ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» أخرجه البخاري ومسلم، ولا يفوتني في الختام أن أنبه إلى أنه إذا دخل عشر ذي الحجة وأراد المسلم أن يضحي، فإنه لا يجوز له أن يأخذ من شعره ولا أظافره ولا بشرته شيئاً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذ من شعره ولا من أظافره شيئاً حتى يضحي»، وفي حديث آخر: «فليمسك عن شعره وأظافره حتى يضحي» فهذا أمر يدل على الوجوب، وذاك نهي يفيد التحريم، ولا صارف لهما، لكن لو تعمد وأخذ، فعليه أن يستغفر الله، ولا فدية عليه، وأجر الأضحية كاملاً إن شاء الله، ولا حرج في الاغتسال والاستحمام وفرك الرأس بالمطهرات المعروفة، ولكن لا يتعمد اسقاط الشعر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الأخذ، ولم ينه عن الغسل ونحوه، والحكمة من النهي عن الأخذ أنه لما كان المضحي مشابهاً للمحرم في بعض أعمال النسك، وهو التقرب إلى الله بذبح القربان، أعطي بعض أحكامه، ثم إن هذا النهي ظاهره أنه يخص صاحب الأضحية، ولا يعم الزوجة والأولاد المضحى عنهم، إلا إذا كان لأحدهم أضحية تخصه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي عن آل محمد ولم ينقل عنه أنه نهاهم عن الأخذ، أسأل الله تعالى أن يسعدنا جميعاً بطاعته، ويوفقنا لمرضاته، ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، ويجعلنا ممن يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، كما اسأله تعالى أن يتقبل من الحجاج حجهم، وأن يغفر ذنوبهم، وييسر أمورهم، ويردهم إلى ديارهم سالمين غانمين، مأجورين مرحومين، إنه جواد كريم.. وشكراً
|