التصور الجاهز المسبق لنظرية أو فكرة غربية يهيئ أفضل مناخ للفهم الخاطئ ونقل أفكار مزيفة تلوي أعناق الحقائق وتفسر الأحداث لكي تنسجم مع ذلك التصور المقولب.
وقد تكون الفكرة «كالعلمانية، الحداثة، الرمزية، البنيوية، التفكيكية، ما بعد الحداثة، العولمة.. الخ» بمفاهيمها وتطبيقاتها سيئة عموماً وقد تكون غير ذلك، ولكننا لن نفلح في مجادلتها ونقدها واتهامها بعدالة دون استيعاب مدلولاتها من داخلها ومعرفة نشأتها وتطورها الدلالي والتطبيقي، ومطالعة آراء أصحابها، ويعد مصطلح العلمانية وارتباطه العضوي بالحضارة الغربية الحديثة، مدعاة للعداء لدى البعض مثلما هو مدعاة للترحيب لدى البعض الآخر قبل تحليلها، ومثل هذا الوضع لتحليل المصطلح منذ البداية في سياق معاد أو مرحب دون توفر العناصر الأساسية لفهمه وتشريحه لن يساعد على فهم أفضل لتاريخ وطبيعة العلمانية ودورها وتأثيرها في عالم اليوم.
مصطلح العلمانية ترجمة للمصطلح الإنجليزي SECULARISM وهي آتية من سكلار التي تعني لاتينياً الدنيوية مقابل الدينية أو الكنيسة، أو المدنية مقابل الكهنوتية، أو العامة مقابل رجال الدين، ويقابلها في الأصل اليوناني كلمة Laicos يعني «الشعب ككل ما عدا رجال الدين» ومنها اشتقت الكلمة الفرنسية للعلمانية LAISME.
وقد يستخدم المصطلح بمعنى واقعي كمقابل للمقدس أو الروحاني «هوارد بيكر».
وكلمة «سكلاريزم» تمت ترجمتها إلى العربية بالعلمانية، بكسر العين، للدلالة على أنها ترتكز إلى العلم، أو بفتح العين، للدلالة على العالم، وآفاق الفكرة العالمية، وكلا الترجمتين منحازة وغير دقيقة لأنهما لا تنقلان المعنى القاموسي لأصل المصطلح، إنما هذا ما تم الاصطلاح عليه منذ ما يربو على مائة عام، ولا مشاحة في المصطلح.
نشأت العلمانية وتطورت مفاهيمها الدلالية والتطبيقية كمشروع في رحم الحضارة الغربية، ويرى البعض أن بذرة العلمانية كفكرة موجودة في أوروبا القرون الوسطى، فالرسالة المسيحية بالأساس روحية لا تتعاطى بشؤون الحكم وإدارة شؤون الناس العامة، وقبل ظهور العلمانية فإن المسيحية تعترف بتقسيم الحياة إلى ما يخص الله «السلطة الدينية» وما يخص قيصر «السلطة السياسية، وتفتقد إلى نظام تشريعي ينظم شؤون الحياة الدنيا، صاحب ذلك التسلط المطلق لرجال الدين حيث كانت إدارة الدولة والمجتمع محكومة بسلطات الدينيين الذين سبغوا على أنفسهم صفة القداسة واعتبار أوامرهم تمثل السلطة الإلهية في الأرض، ومع تتالي تطور العلوم والاكتشافات والنظريات اضطهد وأحرق وقتل كثير من العلماء تحت عنوان التدخل في القدرة الإلهية ومخالفة التعاليم الكنسية المقدسة وارتباطها مع خرافات شاعت في عقلية المجتمعات الأوربية، مثل تلك المرتبطة بحركة الأرض، وأن قوس قزح ليس قوساً حربياً بيد الله بل هو انعكاس ضوء الشمس في نقطة الماء، وأن النجوم لا تقع، وأن الدم يجري في جسم الإنسان.. الخ.
من هنا نشأت أزمة في العلاقة بين المجتمعات الغربية والكنيسة مفرزة أفكاراً وحركات اجتماعية علمانية أولية موجهة المجتمع نحو الاهتمام بالأمور الدنيوية والحياة المعاشة على الأرض وتفاعلت معها ثقافة عصر التنوير «القرن 15و16»، ومشكلة إرهاصات لمنظومة من التوجهات العلمانية، ولكن لم تبرز العلمانية كوجود سياسي إلا مع ميلاد الثورة الفرنسية سنة 1789م، وعلى عكس الشائع، ورغم الصبغة العلمانية للثورة الفرنسية فإنها لم تكن علمانية بالمعنى الشامل إذ أن عدداً كبيراً من رجال الكنسية شاركوا في الثورة، وهم من أطلق عليهم حسب مصطلحات الثورة الفرنسية «الكهنة الدستوريين» مقابل الكهنة غير الدستوريين الذين ظلوا على التزامهم بمرجعية الفاتيكان لتيسير أمورهم الدينية، فيما عمل الأولون وفق إطار الدستور الثوري بمرجعياته المحلية.
هذا التوضيح في موقف الثورة الفرنسية مع العلمانية يطرحه مؤرخ الثورة الفرنسية الكبير بالمر مزيلاً التداخل بين موقف العلمانيين الرادكاليين «اليعاقبة» وموقف العلمانيين المرنين «التنويريين والإكليركيين والريفيين والملكيين» وموضحاً أن علمانية الثورة الفرنسية ليست تهجماً على المسيحية أو الديانات الأخرى بقدر ما هي التخلص من القيود المسيحية في إدارة الدولة والمجتمع، وبدأ التخلص من الأوامر المسيحية سياسياً في عهد نابليون مؤسس الجمهورية الفرنسية الأولى وصاحب أول دستور ومؤسس القوانين والتشريعات التي نص في أحدها على حرية الطلاق الذي تمنعه الكنيسة وتحرمه.
أما من الناحية الفلسفية، فإن المفكر الإنجليزي جورج هوليواك Holyoake «1846» يعد أول من صاغ النظرية العلمانية بإنجلترا داعياً إلى نظام فكري قائم على قاعدة العلم والعقلانية، وكانت دعوته الأولى إلى حرية التفكير، ليكون لكل إنسان الحق في أن يفكر لذاته، والدعوة إلى حق الاختلاف في الآراء حول كل موضوعات الفكر.
وبعد ذلك ببضع سنين انتشرت الجمعيات العلمانية في كل أنحاء بريطانيا، في أثناء ذلك ظهر روبرت كوبر منتقداً هوليواك وداعيا إلى علمانية أكثر نقداً للمسيحية، وكذلك فعل تشارلز برالف «Bradlaugh» أهم داعية للعلمانية في بريطانيا، ومؤسس منظمة التفكير الحر الوطنية، ويرى «ج ويل» أحد مؤرخي العلمانية، أن العلمانية تنطوي على مفهوم فلسفي يتعلق باستقلال العقل في قدراته، وهي عند بيتر برجر خروج قطاعات تابعة للمجتمع والثقافة عن سلطة المؤسسات والرموز الدينية.
وقد ترسخ مفهوم العلمانية وتنوع في عموم أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بينما جرى فرضها خلال القرن العشرين على معظم دول العالم في السياسة والحكم بواسطة الاستعمار والتبشير، فمع الثورة الصناعية والزيادة المطردة في الإنتاج وحركة السوق أصبحت الدولة القومية العلمانية المتمسكة بالتفسير العلمي والمادي التكنولوجي أساسية لضمان تحقيق هذه الزيادة بغض النظر عن المعيار الديني.
وفي عام 1905م توجهت الجمهورية الفرنسية الثالثة أكثر للعلمانية بتبنيها قانون الفصل بين الكنيسة والدولة، الذي وضعه الاشتراكي بريان رغم رفض البابا بيوس العاشر له.
إذن لم يحدث الفصل القطعي الشامل بين الدين والدولة إلا في الجمهورية الفرنسية الثالثة، وعلى خلاف المفهوم الفركوفوني للعلمنة فإن بعض العلمانيات الأخرى كالإنجلو سكسونية تعتبر الديني مجالا من مجالات المدني على نمط ما يسمى بالعلمانية المرنة أو العلمانية الجزئية، وهذا ما يجعل العلمانوي يستغرب السماح للحالات والرموز الدينية بالتواجد في مؤسسات النظام الإنجليزي، فالعمامة السيخية والحجاب الإسلامي مسموح بها حتى في السلك العسكري البريطاني، فالنظام هنا لا يناقض بين الدنيوي «العلمي» والديني «الماورائي» بل يفهم كلا منهما في إطار منظومته، فهناك فرق بين ما يسمى العلمانية المرنة أو الجزيئية والعلمانية الصلبة أو الشاملة، هي أن الأولى ترى وجوب فصل الدين عن الدولة «السياسة وربما الاقتصاد» فيما الثانية ترى وجوب فصله عن كل مجالات الحياة المدنية دون أن يكون للدين علاقة بتوجيه المجتمع وإدارته، وحصره في مجاله التعبدي والدعوي «التبشيري» والأخلاقي.
وتتعدد صور ممارسة العلمانية على أرض الواقع، وتتباين هذه الصور فيما بينها، فالعلمانية ليست نظاماً أو أيديولوجيا، بل رؤية بشرية لإدارة شؤون الحياة بعيداً عن تأثير ودور الدين أو رجال الدين، وينتج عنها منظومة من التشريعات القانونية والتربوية والثقافية والاجتماعية وغيرها، تستند إلى الفكر الإنساني المادي وتبتعد عن تأثير الماورائيات، دون أن تكون محددة المعالم بالتفصيل ودون أن تكون متشابهة بين البلدان، لكن تحكمها ضوابط اللادين «نعيم قاسم»، وفي المحصلة نجد أن تطبيقات العلمانية تختلف بين الدول الغربية كفرنسا وبريطانيا وأمريكا وألمانيا ناهيك عن الدول الاشتراكية أو الشرقية، ومن ثم فالعلمانية كمفهوم يمكن ان تتبناه فلسفات متباينة من المثالية إلى المادية، ومن هذا المنطلق يمكن تصور العلمانية وبالتالي الحكم عليها، أو كما يقول الفقهاء الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
|