مفهوم النفاق العام المتعارف عليه لدى الأمم والشعوب ،هو إظهار المرء خلاف مايبطن، وهذا المفهوم العام مراعى لدى المسلمين عبر تاريخهم، لكنه محدّد تحديداً لا يخرجه عن ذلك المفهوم العام ،وإن أضفى عليه صبغة خاصة. فهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وهذه السطور ليست مجالاً للحديث عن هذا المفهوم ذي الصبغة الخاصة. ذلك أن الشريعة الغرَّاء بمصدريها الأساسيين، القرآن الكريم والسنة الشريفة، قد أوفيا الحديث عنه بشقيه الاعتقادي والعملي. وتراث الأمة الفقهي العظيم قد شرحه الشرح الوافي الكافي.
الحديث في هذه المقالة وما بعدها عن أفراد وجماعات ودول نادت - ومازالت تنادي- بمبادئ يبدو ظاهرها- كما يبدو شيء من تطبيقاتها- جذَّابا لدى من يسمع بها أو يقرأ عنها. ومن هذه المبادئ الديمقراطية بكل ما تشتمل عليه من مقتضيات، وما مرَّ بها، أو مرَّت به، من تطبيقات.
كاتب هذه السطور يدرك أن معرفته بالنظريات السياسية محدودة جداً.، لكنه يمتلك الشجاعة - رغم محدودية معرفته- ليتحدّث باختصار عما يعرفه عن الديمقراطية؛ نظرياً وتطبيقياً. هذه الكلمة أصلها كلمتان يونانيتان؛ وتعني حكومة من قِبَل الشعب.
وقد تتحقّق الديمقراطية بطريقة مباشرة، فتمارس بوساطة تجمُّعات شعبية، أو بطريقة غير مباشرة بوساطة ممثلين عن تلك التجمُّعات،وقد مورست مباشرة في بعض المدن اليونانية القديمة. لكن الديمقراطية بالطريقة غير المباشرة هي التي أصبحت عملية بالنسبة للأمم الحديثة ذات السكان الكثيرين. وقد تطوَّرت في إنجلترا خلال القرن السابع عشر الميلادي، وفُرضت فرضاً في فرنسا وأمريكا الشمالية نتيجة الثورتين اللتين حدثتا فيها خلال القرن الثامن عشر.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تبنَّت أكثرية الأمم المتحضِّرة المؤسسات الديمقراطية.
وتبنِّي الديمقراطية بمفهومها الحر في العام لدى تلك الأمم قائم على أساس نظرية الفصل بين السلطات بحيث يكون التشريع مقرراً عن طريق برلمان منتخب بحرِّية، وتكون السلطة المنفذة إما حكومة مسؤولة أمام المجلس التشريعي كما في بريطانيا، أو أمام رئيس مسؤول أمام الشعب كما في الولايات المتحدة الأمريكية. وإضافة إلى الفصل بين السلطات، والانتخابات الحرَّة، تتصف الديمقراطية الغربية بسيادة القانون بحيث يتأكد من أن كل إنسان لا يعتقل بدون أن يكون متهماً بجريمة، وأنه سيحاكم محاكمة عادلة أمام محكمة محايدة، كما تتَّصف بوجوب حرِّية الرأي والتعبير، وحرِّية التجمُّع، والحماية من التدخُّل من قبل السلطات.،وكل هذه الأمور ذات جاذبية، وغلبة تطبيقها داخل المجتمعات التي تبنَّتها لها ما لها من إيجابيات. على أن من سلبياتها الواضحة أن مصدر التشريع فيها هم البشر.
وهذا أمر ليس بمستغرب في مجتمعات رفضت أن يكون للدين أي موقع في تسيير أمورها العامة، واتخذت -بدلاً من ذلك، العلمانية منهجاً لها. وخطورة منهج مثل هذا المنهج أنه قد يؤدي إلى تبني قرارات تتنافى مع الدين، كما تتنافى مع الخلق الكريم والذوق السويّ. ومن أمثلة ذلك أن أصبح اللواط مباحاً بناء على قرار اتخذته الأغلبية في أحد المجالس البرلمانية الأوروبية.
ومما يلحظه المتأمل في الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية أنها -مع ما فيها من إيجابيات؛ نظرياً وتطبيقياً، داخل المجتمعات التي تبنَّتها لم تول عناية كافية علاقة هذه المجتمعات بالمجتمعات الأخرى. ولعلّ هذا هو السبب الجوهري، الذي صبغ تاريخ الغرب الحديث بالصبغة الاستعمارية السوداء، وجعله يرتكب جرائم يتسم كثير فيها بالوحشية وانتهاك حقوق الإنسان، وهذا ما سيأتي الحديث عنه فيما بعد - إن شاء الله-
على ان حكم الشعب، الذي هو أساس الديمقراطية الغربية، فسَّر بمعنى مختلف جدا في الاتحاد السوفييتي السابق، وفي الصين وشرقي أوروبا ،فمبادئ الفصل بين السلطات، وحرّية الانتخابات، وسيادة القانون، وحرّية الرأي والتعبير، غير مقبولة أو ممارسة بالشكل الذي تطبق فيه لدى الغربيين بصفة عامة ،وعلى أيّ حال فإن مؤيدي تلك الأنظمة يعدونها هي الديمقراطية الحقيقية.
ومن هنا سميت الحكومة في ألمانيا الشرقية -مثلاً- قبل توحيد الشعب الألماني أخيراً ديمقراطية وإن اتصفت بما اتصفت به من شمولية. ولو لم يكن المجال مجال جد لأشير إلى أنظمة عربية وصفت نفسها بالديمقراطية.
ومنطلق أولئك المؤيدين أن الأحزاب الحاكمة في البلدان المذكورة تمثل العمال والفلاحين، وهؤلاء وأولئك هم -في الواقع- أكثرية سكان تلك البلدان. ربما أن الديمقراطية تعني حكم الأكثرية فهم ديمقراطيون. ويقولون: إن هناك ملكية دولة، وتخطيطاً مركزياً لزيادة الثروة الوطنية. والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تعد غير ديمقراطية، ولا يمنع اختلاف الطبقات الشعب من الحصول على تعليم جيد. وهكذا فإن سيطرة الدولة على الأمور تضمن النفع العام للجميع، وعلى هذا فإن الشيوعية تمثل المصالح الحقيقية للفرد والمجتمع مما يؤكد ديمقراطيتها.ومن المعلوم أن الشيوعية - بكل ما أضفى عليها المتحمسون لها سابقاً من أوصاف عرف الجميع أنها لم تكن منطبقة مع الواقع- سقطت في أهم معاقل تطبيقها, أو هي تحت مبضع الجراحة في آخر معاقلها لتصبح منسجمة بطريقة ما مع أوضاع العالم المستجدة. والبوادر توحي بأن القائمين بهذه الجراحة - بحكمتهم المتوارثة - أمهر مما يتصوره الكثيرون.
وكما اختلفت النظرة إلى الديمقراطية؛ فكراً وتطبيقاً، اختلفت آليات وصول الهيئات المشرِّعة والمطبقة لها إلى مواقع القرار، ومن هذه الآليات ماهو جدير بالتبني مع المراعاة التامة الحازمة لثوابت الدين، الذي لايمكن إلا أن يكون -وهو الذي شرعه رب العالمين وأحكم الحاكمين - أحسن حكم؛ مصلحة عامة للبشر، وعدلاً فيما بينهم، وصوتاً للأخلاق الفاضلة الكريمة.
أما بعد:
فقد يقول قائل: لم تتحدَّث عن الديمقراطية؟
والجواب عن هذا السؤال أن الحديث عنها أصبح -منذ أن أعطت أمريكا إشارة خضراء لهذا الحديث بعد ترسُّخ قدميها في منطقتنا المغلوبة على أمرها - سلعة رائجة يعرضها من يعرف قدرها ويدرك أبعادها، ومن لايعرف ذلك القدر، وهذه الأبعاد؛ تماماً، كما أصبح سلعة رائجة أن يتبارى المتبارون من داخل الوطن وخارجه في الهجوم على مقررات العلوم الدينية في مناهجنا التعليمية؛ وبخاصة ماهو من أسس دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب،- رحمه الله- وهي الدعوة التي يعرف كل متجرِّد عن الهوى أنها تنادي بأن يتحرَّر المرء من ربقة خرافات التعلُّق بغير الله، ويتمسَّك بما يدلُّ عليه كتابه العزيز وسنَّة نبيِّه الأمين، ما يدلُّ عليه العقل السليم، من وجوب التعلُّق بالله وحده، والتوكل عليه سبحانه لاشريك له.
ومما لايستطيع أن ينكره متأمل أن الهجوم على المواد الدينية في مناهجنا التعليمية؛ بدعوى أنها وراء إحداث فكر إرهابي، إنما انطلقت مسيرته فعلاً بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر. أما المهاجمون من خارج الوطن فشأنهم معروف. لكن السؤال حول المهاجمين من داخل الوطن. هل انطلاقة مسيرة هجومهم بعد تلك الحادثة جاءت بوحي خارجي؟ ربما استدل من استدلّ بالقرائن، فظنَّ هذا الظن. وقد يقول قائل: إن الهجوم انطلق نتيجة يقظة داخلية قدّر لها أن تتم بعد سبات عميق لتصلح شأن أصول عقيدة قام على أساسها، وناصرها، الحكم السعودي بأدواره الثلاثة. على أن من الصعب إنكار أن أمريكا قد أصبحت تتحكم؛ متجبِّرة متغطرسة، بشؤون العالم؛ متقدمة تقنياً واقتصادياً ومتخلِّفة، وإن اختلفت درجات هذا التحكُّم وفقاً لقابلية زعامات الدول للخضوع لإرادتها وإملاءاتها.
والله المستعان على ما يصفون
|