عانت المجتمعات الإنسانية ولا تزال تعاني من التطرف بأشكاله ومجالاته المتعددة، وبدت المعاناة أكثر، عندما يكون رواد الحركات والآراء المتطرفة من بني الجلدة ومن المحسوبين على المجتمع. وربما تعود فلسفة الأخطار الجسيمة التي يولدها التطرف، إلى المنزلقات الساحقة التي تتلو مرحلة التطرف، ذلك أن المتطرف عادة ما يكون على شفا جرف هارٍ خارج معظم المجموعات الإنسانية داخل المجتمع. وهنا تكمن الخطورة في أن تجذب التيارات المتطرفة إلى حياضها أعدادا متزايدة، فتقل منطقة الضغط في وسط المجتمع لتتحول مراكز القوة نحو الأطراف. ومعلوم أن الأطراف أجناس متعددة أهمها طرفا اليمين واليسار، وفي كلٍّ بلاء عظيم للمجتمع الإنساني، في حقبة قاطبة، وفي الحقب المعاصرة بشكل خاص، نظرا لما تحقق للإنسانية من قدرات اتصالية وتفاعلية كبيرة مكنت من إيجاد مثبطات كبرى لعملية التواصل تلك، مع شيوع الأنماط المتطرفة، ذلك أن المتطرفات كلها لا يمكنها أن تلتقي تحت أي مظلة سوى مظلة النزاع والشقاق والفرقة.
ومن هنا بدت المجتمعات المعاصرة - وبخاصة تلك التي جربت مشكلات النزعات المتطرفة - تعمل بجدية أكبر من أجل ترسيخ مبدأ الوسطية والاعتدال في الأمور كلها. ويشير استقراء واقعنا في المجتمع السعودي إلى أننا كنا وما زلنا نتحدث دائما عن (الوسطية) باعتبارها المنهج القويم في النظرة للناس والأشياء استنادا إلى تعاليم ديننا الحنيف وتحقيقا لسمة (الخيرية) التي اختارها الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام.
ثم ما لبثنا أن بدأنا نؤكد على ضرورة تحقق هذه السمة في واقعنا المجتمعي وإصرارنا عليها باعتبارها بديلا استراتيجيا لما ظهر على الساحة المجتمعية من تطرف وغلو كبيرين.
لكن المتأمل في واقع مناداتنا بالمنهج الوسطي - ربما - يلحظ أنه على الرغم من أهمية المنهج وترسخه في شريعتنا وتعاليم ديننا الحنيف، إلا أن إسقاط هذا المنهج على واقع المجتمع لا يزال بحاجة ماسة لجهود استراتيجية كبرى.
(الوسطية) سر بقائنا وسيادتنا، وما عداها عبث ولهو بعقول الناس وبمقدراتهم، وبواقع المجتمعات المسلمة وبمستقبلها، ولذلك لزم أن نعرف بشكل قطعي، ما الوسطية التي نعنيها؟ لعلي أدعو في هذه المداخلة إلى أن يتم إنشاء هيئة عليا تمثَّل فيها كل أطياف المجتمع وكياناته من ذوي الكفاية العلمية والعملية في جميع التخصصات السيادية التي يحتاجها المجتمع واقعا ومستقبلا، لتقوم هذه الهيئة بتحديد رؤيتنا السعودية للمنهج الوسطي وفق أولويات مجتمعنا في مجالات التنمية والتعايش مع شعوب العالم قاطبة، بما يكفل تحقيق احترامنا - أولا - لذاتنا ومن ثم احترام الآخرين لمنتجنا الفكري والسلوكي.
إن غياب الاستراتيجية الوسطية عن الساحة المحلية جعل طرح قضية الوسطية أقل من أن يكون له التأثير الفعال في واقع الناس، وأفسح المجال رحبا أمام الكيانات المجتمعية المعتلة أن تطرح آراءها وأفكارها المتشددة والمتطرفة، تارة نحو اليمين وأخرى نحو اليسار.
ربما أُتينا من أننا لا نعرف كثيرا عن تلك الوسطية التي أُمرنا بها.
(*) عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|