يتشفى من «الموت» بقراءة ممعنة لفعل «الحياة»
ويستجلي بذلك «الصنيع» الصدق مع الواقع واستشراف معطيات إنجازه في إرث من «غابوا».
ويطرح كتابه الجديد بتيمة دلالية إبداعية «لوعة الغياب» ليستدعي مدا من ابعاد تراكم وعي ذهنية التلقي به كاتباً روائياً.
** وعبر فلسفة موضوعية يرتفع بها الروائي «الكبير» إلى «صنيع» معرفي جاد، وقد عاب في المقدمة الآلية التي يتم بها - عربياً - التعامل مع «إرثنا» الثقافي..! ومع رموز ثقافتنا الراحلين..!
إن وضعنا من وجوه كثيرة يشبه وضع وإرث من يحدس أن لديه ثروة كبيرة لكن دون أن يعرف حجم هذه الثروة أو طريقة الاستفادة منها، ويشبه أيضاً من يجمع الأشياء، ويضعها في مستودع، لكن بطريقة عشوائية بحيث يتعذر عليه لاحقاً الاستفادة منها».
** وقد اعتبر تفاصيل فنية لصياغة عناوين الكتاب الذي احتوى كل فصل منه على قراءة شخصية ثقافية لمبدعين عرب.. غيبهم الموت..!
وكان دافعه.. الوفاء «العقلاني» الذي يتعامل مع «الموت» على ايجاد تأسيس «النفس» على فعل ثقافي غني وممارسة قرائية تتماشى مع الثقافي والوجداني في آن واحد..! دونما تغييب لجدية القراءة وعمقها «بطوباوية» وقتية.. تأخذ طابع التأبين الحزائني.. وتدبيج مطولات بكائية.. لا تجدي نفعاً..
** وإذ يكاد هذا التوثيق الثقافي لإنجازات «مميزة» للراحلين.. استلبها عبدالرحمن منيف من ذاكرة ثقافية وإنسانية تتجلد بالصبر.. لقراءة الإرث المكتوب وإعادة تصديره لمبدعين.. قل أن يماثلهم أحد من جيلهم.. بالقدر الذي يتركه فضاء حركتهم صمتاً.. وغياباً..!
صحيح أن جزءاً فقط مما يكتبه أي كاتب هو الذي سيبقى في النهاية وما عداه ستتراجع أهميته، وقد يطويه النسيان نظراً للتفاوت بين عمل وآخر وأيضاً لانتفاء أو تغير الأسباب التي أملت بعض تلك الأعمال في حينها وأن تجعلها جزءاً من الذاكرة التاريخية بدل أن نترك هذه المهمة للأجيال اللاحقة أو للأجانب لكي يعرفونا على ما نملك وما قدمه مبدعونا».
** فبناء ذاكرة للأجيال تتلمس تاريخيتها توثيقاً يعطيها فاعلية في البناء هو ما يسعى إليه منيف.. في قراءات تحرض على نهج علمي في التعامل مع التركة الثقافية، وهو يشرع نافذة في فكر المبدعين من منطلق يراه هادفاً، في تنويع مراحل القراءة والمراجعة لثلة من رموز الثقافة العربية بحيث يتجلى في اختياره سيماء تلقي جمالية تؤسسها ذائقة مثقف بحجم منيف.
إذ يجعل الشرط التاريخي محفزاً لفصل الموت.. عن النهاية باعتبار «الأخيرة» انطفاء لتجلي عطاءات الذات الإنسانية في شفافية انجازها وقيم عطائها..!
وهو ما أكد عليه بقوله: «إن الموت ذاته نهاية منطقية لحياة أي كائن لكن ميزة الإنسان قياساً للكائنات الأخرى أن له ذاكرة وألا جديد دون قديم، وهذا ما يعطي الحياة الإنسانية القدرة على الاستمرار الفني اعتماداً على تراكم التجاوب التي مرَّت ، شرط أن تكون هذه التجارب مدونة لكي يتاح للآخرين الاطلاع عليها.
** فوعي الذاكرة بالتدوين لاستيلاد حيوية الإبداع الإنساني هو محرك هذه القناعة العقلانية للتماهية بصدقيتها وانبثاقها من الجذر الإنساني الناد.. والمحترق بأبدية الكتابة.. والمجترح للظرف الكوني، «الموت».
وظروف «إنسانيته» التي تجعله مغايراً لموت الكائنات الأخرى وتقلب هذه «الظروف» تقلب الأقدار ذاتها!
من «هكذا» قناعة.. ينطلق الروائي العربي عبدالرحمن منيف في تقديمه لكتابه الجديد «لوعة الغياب» حيث «يقرأ» فقد ذاكرة الإبداع العربي ومشهده القارئ.. والملاحظ.. عدد من المبدعين غير العاديين.. إذ ينتقلون إلى الحضور في الذاكرة بفعل «التدوين».. ووجود المثال الناجز للتجربة.. وحيويتها ومراحلها.. «أولئك» الذين تسنموا ذرى الدهشة الأولى وتفردوا بضوء المشهد.. بعد أن غُيبوا في عتمة ألمهم.. ضراوة جمرة الكتابة وتسيدوا سفر «الاستثناء» في الحضور.. والغياب وحضروا باتجاه مسارات الحلم.. والضوء.. ويُعد «منيف» كتابه «مكدساً» لعدد من الغائبين الذين سعوا.. وجهدوا لفتح هذه المسارات وكان سعيهم مميزاً حتى في موتهم!
** ويتخذ من «الموت» مدخلاً لقراءة سيرة الكتابة ووجود وجدوى منطقها وحدود تطلعاتها.. في نفس وذاكرة من قرأ غيابهم وهم: سعدالله ونوس، جبرا إبراهيم جبرا، الجواهري، غائب طعمة فرحان، نزار قباني، جميل حتمل الباهي، إميل حبيبي، حليم بركات، إيفو اندريتش، لوركا، يوسف فتح الله.
** ويجعل من معرفته الشخصية بهذه الأسماء مدخلاً لمزج الكتابي - بالذاتي والمعرفة الإبداعية بالوجود الحياتي.. المندغم في نسيج بحث دائم عن الرائع.. والجميل.. والخلاق.. عبر الموضوعية في استقراء الوضعية الحقيقية للمنجز.. ومحاورته بالمفهوم الذي عبر عنه بقوله: «إذ ما يكاد الموت يختطف واحداً من المبدعين» وبعد كلمات الرثاء التي تشبه بعضها تماماً، وما أن يمر الوقت قصيراً حتى ينسى ذلك المبدع ويغرق أكثر في التراب في الوقت الذي يجب أن يكون الموت مناسبة لقراءة هذا المبدع قراءة موضوعية واعطائه المنزلة التي يستحقها وليكن ابداعه لبنة في البناء الذي يكوِّن الذاكرة.
** فهذا الإحساس العارم بجدوى البحث وزرع عالم «الغائبين» بالأسئلة.. وتشوف مزيد منها.. ليكون «موت» المبدع بحثاً عن «وجوده» الأبدي في الذاكرة القارئة يستنسخ «حضورا» لا يتكئ على التأبين العاطفي المجرد.. والقشوري في تعاطيه السيرة الإبداعية و«اللجوء» إلى الماضي الوهمي والمتخيل، دونما نقلها إلى التعبير العقلاني المتأني من مداومة استخراج اصالة المنجز ونباهته.
يرى «منيف» أن سعد الله ونوس يبدأ «بموته» حضوراً جديداً.. يتعامل مع الحياة.. ببقاء انجازها.. وتحرير صوت رحلتها من الذاكرة الحافظة إلى التدوين.. مما يعني.. انتقالها من شفاهية الاندثار وصمت الذهن.. إلى ديمومة الكتابة وحيويتها.
** ويعد نصه «رحلة في مجاهل موت عابر» يفتح أعيننا على عالم رغم قربه.. نحاول نسيانه ربما لخوفنا أو جبننا عن مواجتهه! وبحساسية «متقنة» يعيد «منيف» قراءة إبداع سعد الله ونوس ويقدم دراسة تحليلية لإحدى مسرحيات الأخيرة وينطلق منها إلى تجسيد الوعي المعرفي المتأصل في روح فنان.. جابه الموت.. حتى انتهى.. لكنه لم يغب.
* عبدالرحمن منيف لوعة الغياب..
المؤسسة العربية للدراسات والنشر..
|