* هل غادَرَنا.. أو «غادَرْناه» نحن، ذلك السؤال المتَرمِّد المتردِّم:« لماذا نحن مكروهون»..؟!
* وحتى تحل الإجابة، فها قد حل سؤال آخر اكثر ترمُّداً وتردماً من سابقه هو:« لماذا نحن مستهدفون»..؟!
* حسناً.. وهل نحن نستكره «الآخر»، حتى نُكره منه..؟ او نستهدفه، فنُستهدف منه..؟!
* رأيت وسمعت شباباً من هذه البلاد العظيمة، ظهروا على شاشات التلفزة مساء يوم الاثنين، الموافق للثاني عشر من يناير 2004م، فذكروا من جملة اعترافات وإفادات لهم، حول اسباب انحيازهم للتطرف والغلو والإرهاب، انهم استمعوا واخذوا بفتاوى مشيخات تنفيرية تكفيرية من داخل البلاد ومن خارجها، وكان من بين هذه المشيخات التكفيرية من خارج البلاد، ممن يعدون رؤوس الخوارج المعاصرين بدون منازع، اولئك الذين يغررون بأتباعهم ليقتلوا الناس ويبغوا في الارض، ثم يغرونهم بالجنة، ويعدونهم بالفردوس الأعلى، ويمنونهم بالحور العين، فلم يبق الا ان يحرروا لهم صكوك الغفران..! من هؤلاء الرؤوس:« ابن لادن - المقدسي - عزام - السروري - ابو قتادة - ابو بصير..» إلى آخر القائمة السوداء، التي تخصصت في تضليل أبناء المملكة، والسعي إلى إلحاق الأذى والضرر بأرضها وبشعبها.
* قال بعضهم: كان هؤلاء يكفرون الحكومة السعودية وكل من يعمل معها.. فالمدارس حرام، والوظائف حرام، والعسكرية حرام..! كل شيء في المملكة حرام، وكل من يقترب من هذا الحرام الذي يزعمون في بلادنا، فهو عندهم كافر..! فماذا بقي إذن للسعوديين في هذه الحياة..؟! ولماذا هذا السيف المسلط على رقاب السعوديين وحدهم من بين كل خلق الله، بينما ديار وأوطان وأهل «المقدسي وابي قتادة وعزام وابي بصير»، وغيرهم، ممن ظهروا علينا من فلسطين ومصر والشام، في مأمن من طروحاتهم في التحريم والتجريم والتكفير..؟!!!
* هذه ليست سوى حرب ضروس شعواء، تشن علينا من الخارج منذ ثلث قرن، فهل انتبهنا إلى أن حرباً اضرس واشرس منها، تشن علينا من الداخل..؟! فالقادة هم القادة، ولكن نار المعركة وحطبها مع شديد الأسف، هم من «بعض» أبناء هذه البلاد وشبابها، الذي سلم قياده، واستسلم لجلاده، فكان ما كان، ومالم يكن في الحسبان..!
* سوف أقص عليكم هذه القصة الحقيقية، وشهودها ما يزالون احياء يرزقون، وفيها مثل واحد فقط من آلاف، يؤكد لديكم - دون ادنى شك - ما مر بكم من مواقف صارخة شبيهة، تدل على أنكم شعب مستهدف في وطنه وحياته كلها، والسهام تأتيه من بين يديه ومن خلفه، مثلما تأتيه من خارج الحدود، عبر فتاوى تضليلية، وإيحاءات تحريضية، وافتراءات كيدية.. إليكم القصة:
* كنت ذات مساء، بعيد حادث «11 سبتمبر المشؤوم»، في ضيافة صديق، دخلت المجلس الكبير، الذي ضم رجالاً من كبار السن ومن صغارهم أيضاً، وكان يتصدر هذا المجلس رجل عرفت من شكله، أنه من قطر عربي شقيق، اعطاه الله بسطة في كل شيء، جسم ممتلئ، ولحية كبيرة طويلة، وقدرة على الكلام عجيبة..! لم نكد نتبادل عبارات السلام والترحيب، حتى استأنف حديثه الذي توقف برهة عند دخولي، وظل يتكلم في شأن الحوادث الأخيرة، وراح يتناول الحلال والحرام، وما يصح وما لا يصح طول الوقت، حتى وصل الأمر إلى المساس بالمواطن السعودي ودولته وحياته، والناس كلهم بين «محمدل ومحوقل ومؤمن»...! حتى ضقت ذرعاً بهذا المجلس وما يدور فيه، خاصة وأن الكل ساكت إلا هذا المتعالم..! فهو يقول للناس في هذا الحي الشعبي البسيط مما يقول، بأن تعليم بناتهم لا يصح، وأن المرأة ليس لها إلا بيتها، وأن توظيف النساء، لم يجلب لدول غيركم، الا الخراب والفساد.. وأن.. وأن.. حتى لم يبق شيء في حياتنا، يصح عنده..!
* رآني شاب كان بقربي، ولعله أدرك مدى ما اشعر به من ضيق وتبرم، فاقترب مني، ومال علي، وهمس في أذني قائلاً: هل تعرف الرجل..؟ قلت: لا. قال: هذا من الشقيقة «....»، وهو نزيل دار عند مضيفنا الطيب، ويملك سيارة كبيرة، ينقل بها يومياً، «عشرين معلمة» إلى مدارس القرى المجاورة، ويتقاضى منهن كل شهر «20 ألف ريال» تقريباً..! وزوجته المصونة، حولت بعض الشقة إلى مشغل، واستقدمت عاملات من بلدها، وتكسب من الخياطة للنساء مبالغ كبيرة، اما بناته فهن ثلاث، واحدة ممرضة في مستشفى كذا.. والثانية موظفة استقبال في مستوصف خاص، وهما مقيمتان معه هنا..! أما الثالثة، فإنها تحضر درجة الدكتوراه في الطب، في جامعة في بلدها، وهو يصرف عليها من هنا، من دخل شهري لكل الاسرة، لا يقل عن «40 ألف ريال» ..؟!!
* لقد كدت اصيح قائلاً: وجدتها.. وجدتها..! هذا الرجل يحلل ويحرم، ويتدخل في حياتنا في بلدنا، ليرينا ما يصح لنا وما لا يصح، في كل شيء وفي محاذير يراها في تعليم الفتاة، وحرمة عمل المرأة كما يقول. لماذا وهو لا يطبق هذا على نفسه..؟! هو بلا شك، مثل غيره من هؤلاء الذين يريدون الإبقاء على أبناء وبنات هذه البلاد، جهلة وسجناء الحرام الذي يبتدعه امثالهم، ومن ثم السيطرة على خيرات البلاد، والاستحواذ على الفرص الوظيفية، فتبقى لهم وحدهم، ولزوجاتهم ولبناتهم، دون شبابنا وزوجاتنا وبناتنا..! هل هناك سبب آخر لما أسمع واشاهد..؟ وما يتكرر مثله بين البسطاء والعامة من السعوديين داخل بيوتهم..؟
* حاولت التدخل بالكلام، وسط تسيد سي «السيد»، المفتي في عزيمة عشاء، فنجحت. وطلبت منه تفسيراً لكلامه، وهل ينطبق هذا على ابناء وبنات بلده، وهل طبقه هو على زوجته وبناته، وهن يعملن ويكسبن هنا معه..؟! كنت أظن اني بكلامي هذا، سوف اجرحه او اخرجه من طوره، لكن المدهش في الأمر، انه ما زاد على أن ضحك وهو يمسح بيده على لحيته، ثم يرد في برود وتمسكن، مبرراً ما قلت، بالحاجة إلى المال، في حين اننا «السعوديين»، شعب أعطانا الله ما أغنانا به من عمل المرأة، وكفانا بذلك «شر» خروجها من دارها، إلى المدارس والمستشفيات والوظائف، وانه لو كان الامر بيده، لما سمح لامرأة في بلده بالخروج الى الشارع، ولما خرجت واحدة إلى البحث عن عمل في دولة من الدول..!
* لقد أفصحت له بعد ذلك ما أردت قوله، من كونه هو وغيره، يريدون أن تبقى بلدنا حكراً عليهم يعملون ويكسبون، ونظل نحن ندفع مذمومين مكروهين، غير مشكورين، ثم توسع النقاش بيننا، حتى فض العشاء، ما كان سيتحول إلى شجار.
* ارأيتم.. كيف اننا شعب فينا طيبة زائدة، قد تصل ببعضنا حد الغفل، ففينا ربما من يتجاهل، فيجهل عليه، ومن يتخادع فيخدع، ومن يتكاره فيكره، ومن يستهدف فيستهدف، ولهذا.. سمعنا من تلاميذ مدرسة التشدد والغلو، التي ارسى قواعدها رؤوس الخوارج، من يفتي بعدم احقية الزوجة في الرعاية والعلاج من زوجها، وكأنها دجاجة تفريخ في بيت زوجها لا أكثر..! حتى الدجاجة، تحظى بالعلاج والرعاية من اصحابها..! وآخر يقول في وجه امرأة اكاديمية: انه ذاهب الى الحمام ليتقيأ..! وثالث يتهكم على المرأة المسكينة على الملأ، فيذكرنا - لعله - أن الرجل لا يذهب الى المستشفى ليلد..!
وهذا نتاج طبيعي، لمدارس التشدد والكره التي غرسها بيننا اولئك القوم الذين يستهدفوننا، ويتقصدون بلادنا بكل سوء، بل ويسعون إلى طلبنة مجتمعنا السعودي المنفتح.
* ما الفرق بين من يحرم علينا من عنده، وظائفنا وخيراتنا، ويحجر على نسائنا في الداخل، وبين من يكفر دولتنا ومدارسنا وعساكرنا من الخارج..؟!
* إنهم جميعاً عدو واحد، وجيش واحد، وغزوة واحدة، ليس لها من هدف، سوى تفكيك وتفتيت وشرذمة هذا الشعب، وإقصاء كفاءاته، ثم الاستحواذ على خيراته ومقدراته.
* ومثل هؤلاء، اعداء آخرون من بينهم، ومن بين بني جلدتنا، يوجهون سهامهم الى كفاءات علمية، وقدرات وطنية، تعمل من خلال الجامعات والإعلام والثقافة والادب، بهدف تهميشها وتحييدها، ولإبعادها وإقصائها، حتى تخلو لهم الساحة من كل مفكر ومثقف وعالم، وتبقى لارباب التفسيق والتكفير والعلمنة..!
* راجعوا مقالة العالم الكبير الدكتور «عبدالوهاب ابو سليمان»، عضو هيئة كبار العلماء، المنشورة في جريدة عكاظ يوم «8-6-2003م» ، فقد وضع النقاط على الحروف، في مسألة خطيرة شاعت في بلادنا بفعل الارهاب الفكري، وهي تصنيف الناس، واخراجهم من دائرة الاخلاص، وانتقاص عقيدتهم، والتشكيك في نواياهم، حتى طالت نار هذه الحرب القذرة، اروقة الجامعات، ومنابر العلم والبحث والثقافة والادب، وبسببها فقد المجتمع السعودي، الكثير مما يمكن ان يصلح به شؤونه الاجتماعية والحياتية.
fax:027361552
|