عندما أقرأ بعض المقالات والبيانات، وكذلك بعض الفتاوى، التي تمتلئ بها الدوريات الصحفية العربية هذه الايام، أخرج من ذلك كله بانطباع مؤداه أننا نحن العرب نعيش في عالم، والناس الآخرون يعيشون في عالم آخر، بمعنى أننا للأسف في عزلة تامة عن حقائق العصر الذي نعايشه.
العولمة بمفاهيمها الاقتصادية والسياسية والثقافية تحث خطاها قادمة الينا لا محالة، ولن تنفع في مقاومتها كل اساليبنا الدفعية العتيقة، سوف تدك بلا شك كل اسوارنا العالية، وسوف تقتحم بيوتنا، وستغير كل معادلاتنا والكثير من قناعاتنا، تماما مثلما زلزلت الارض من تحت اقدامنا «عولمة المعلومات» من خلال المحطات الفضائية، وكذلك من خلال الانترنت الذي جعل المسافة بين نيويورك والرياض مثلاً لا تتجاوز ضغطة زر على ماوس الكمبيوتر لتصبح المعلومة في متناول الجميع دون استثناء. هذه حقيقة لا مجال لإنكارها او مغالطتها بأي حال من الاحوال.
وسوف تصبح العولمة اكثر قوة وأشد فتكاً بنا عندما يتعلق الامر بالاقتصاد واقوات الناس ومصالحهم المعيشية، حينها ستصبح القضية مسألة حتم وليست مسألة خيار، بمعنى: اما الانطواء على الذات والتقوقع في شرنقة «الخصوصية العربية»، وبالتالي الجوع والفقر، ثم التخلف فالانهيار والتلاشي، او في المقابل الانفتاح ومواكبة العالم، والسير في ركاب «العولمة» والتعامل معها بموضوعية وواقعية كما هي الحقائق على الارض، لا كما نرغب او نتمنى ان تكون.
هذه الحقائق أراها أبعد ما تكون عن كثير من مثقفينا ومتعلمينا، وبالذات طلبة العلم الشرعي منهم، ولعل في بعض الفتاوى التي صدرت مؤخراً دليلاً يثبت ما أقول، فرغم انهم منشغلون في قضايا فرعية، او مسائل هامشية، فإن منطلقاتهم ومعاييرهم ايضاً في القبول والرفض تنم عن انهم بعيدون عن فهم الواقع، ناهيك عن استشراف المستقبل.. قضاياهم يحددها حصراً الماضي لا الحاضر، اما الذي يتحدث عن المستقبل فهو -في رأيهم- ذلك الاحمق الذي «يولّم العصابة قبل الفلقة» كما يقول المثل العامي النجدي! أي أن من الحكمة في رأيهم ان تنتظر حتى تصاب لتبحث عن علاج!. وهذا بالمناسبة ليس مثالاً عابراً لا قيمة له بقدر ما ينم عن رؤية ثقافية عند بني يعرب لا تعرف الا التعامل مع «الآني» ولا تعرف كيف تتعامل مع ما هو قادم او متوقع او مفاجئ فتستعد له وتهيئ واقعها لمواجهته.
العولمة الاقتصادية وهذا جوهر خطورة القضية برمَّتها تعني بمنتهى الاختصار والمباشرة أننا كعرب ومسلمين «مضطرون» للدخول في منظومة من الاتفاقيات، والرضوخ لشروط اذعانية، والتعامل مع واقع وظروف عالمية من شأنها ان تلغي اول ما تلغي اي معنى «للخصوصية»، هذه المنظومة لا نملك ان نؤثر فيها الا في نطاق ضيق، واحياناً لا نملك ان نؤثر فيها اطلاقاً، بمعنى: ان نقبل بها كما هي عليه ونبقى، او ان نرفضها وننتهي، وانا هنا لا أبالغ بقدر ما أحاول ان أقرع ناقوس الخطر.
وعندما أجيل النظر في جل اهتماماتنا وأولويات فعالياتنا الثقافية والاجتماعية والدينية لا أجد ان لها علاقة بحاضرنا، قدر ارتباطها بماضينا، وهذا لا يعني اطلاقاً أنني أدعو ان نهمل الماضي، فالذي لا ماضي له من الصعوبة بمكان ان يصنع حاضرا، غير انني أطالب ان نعتني بحاضرنا، قدر اهتمامنا بماضينا، التقوقع في الماضي، والتحصن فيه وفي عاداته وتقاليده ومفاهيمه وأقول: أساطينه، يعني بكل المعايير: الجمود، والجامد اليوم لا حظ له في الحياة، ان من يمارس مثل هذه الممارسات هو أشبه ما يكون بالنعامة التي تواجه خطر الصياد بدفن رأسها في الرمال.
كل ما أريد ان أقوله في هذه العجالة: إننا يجب ان نفهم وندرك ان اصرارنا على تهميش الحاضر، والتعالي على فهم منطق العصر ومقتضيات حقبة العولمة، سيكون بمثابة الخطوة الاولى التي ستسعى بنا نحن العرب الى الاندثار والانقراض، يقول العرب في امثالهم: «لا تكُ كالعنز تبحث عن المدية»، والمدية هنا السكين، فهل سنكون كلنا تلك العنز؟!!
|