آه من «لو». لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، فلربما كان الأولى بنا أن نُبقي على بوابة الفكر الإنساني مشرعة تُفضي إلى ساحة واسعة جدا، تتلاقح فيها الأفكار والرؤى المتشكلة بداخلها، والوافدة إليها، ليخلص المجتمع إلى أفضلها وأقومها وأقسطها، والأمة لن تجمع على باطل. خشينا كثيرا من الأفكار، وبالغنا في حذرنا من مقارعة الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وأطّرنا كياننا العظيم بأطر ربما لم تكن عين الصواب، فضيقنا واسعا، وحجرنا بحرا لجيا من العلوم والمعارف والمكتسبات الإنسانية. لعل العلم مرهون بأهله من العلماء، بل من كبار العلماء، لكن الفكر حقيق به كثير من الناس، الذين ربما تقف حدودهم عند القذف بالفكرة التي لا يلقون لها بالاً، ليلتقطها عالم فيجعل منها العجب العجاب في مواجهة كثير من مشكلات المجتمع الإنساني وويلاته ونكباته.
دُور ومؤسسات الفكر في بلادنا ليست كثيرة، وإذا كانت فليست فاعلة، وإذا حاولت راودتها الشكوك في أن تقع في المحظور.
استطاع مجتمعنا أن يقيم مؤسسات علمية شامخة، لكن روافدها من مولدات الفكر المجتمعي ليست بذات الشموخ، مما ساعد على سيادة المدرسة الفكرية الواحدة، ودعمها بكل ما أتيح للمؤسسة العلمية من كفايات وإمكانات، بالقدر الذي اعتقد معه عامة الناس، وربما خاصتهم، أننا قد أَتينا بما لم يأت به الأولون. في عالم باتت تسيطر عليه الفكرة أكثر من سيطرة المعلومة، لا بد لنا من مؤسسات ضخمة لرعاية الأفكار وحمايتها. وقبل ذلك نحتاج إلى بيئات صحية لتوليد الأفكار وقبولها، ليس لتسود بالضرورة ولكن ليتم فحصها ومقارعتها بغيرها من نواتج الفكر الإنساني المحلي والعالمي.
مواطن إنتاج الأفكار وتعهدها كثيرة، من أهمها الأندية الاجتماعية، والمراكز الثقافية، والمكتبات المنفتحة على كثير من مصادر الأفكار الموالية والمحايدة والمغايرة. وهنا يكمن التحدي الأكبر لبناء الإنسان السوي القادر على فهم كثير مما يحتاج إليه هو، ويحتاج إليه مجتمعه.
ربما أتينا من أننا لم نتح للفكر مجالا نراجع من خلاله كياناتنا ومحمياتنا، فصدئت وأسنت مَواطِن من مركباتنا، بالقدر الذي أخذَنا معه النعاس لنصحو على طرق الغرباء أبوابنا. لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، فقد نكون أكثر جرأة على أن نختلف وأن نقبل الاختلاف بيننا، وأن نؤمن أن لكل منا الحق في أن يرى الحق بالطريقة التي يعتقد أنها توصله للحق، طالما أنه يبحث عن الحقيقة.
ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، فسيكون من الأولى لنا أن نستعد بما لدى الآخرين لنتعلم منهم أكثر من فرحنا بما لدينا. ولو أصبح واقعاً ما كان ماضيا، لبات أولى بكثير من كياناتنا المجتمعية المفوّهة أن تستمع أكثر مما تتكلم، وأن تفكر أكثر مما تنقل، وأن تبصّر أكثر من أن تتعجل. لو كنا نعلم الغيب، لاستكثرنا من الخير وما مسنا السوء.
(*) عميد كلية الدعوة والإعلام بجامة الإمام
|