جاء قرار فرنسا بمنع الرموز الدينية، ومنها حجاب المرأة المسلمة بمثابة الانقلاب على أصول العلمانية «الفرنسية» الجذور، فالعلمانية في الأصل كانت تؤكد على التفريق بين تدخل الاعتقاد الديني في السلوك العام، مع التأكيد على حرية ممارسة تطبيقاته في السلوك الخاص، أي تم استبعاد تدخل الدين في الشؤون العامة، بينما وقف موقف الحياد من التدخل الثاني في الشأن الخاص، فهي المنطقة المحظورة التي تتقاطع فيها مبادئ كثيرة أخرى مثل التعددية والحرية الدينية وحقوق الانسان، وهي جميعاً ما يلتزم باستيفائها الدستور الفرنسي، ولم تأت مبادئ العلمانية بما يحدد كيفية اللباس في الدولة العلمانية مثل أن يكون التعري وكشف أجزاء من جسد الأنثى من واجبات الالتزام بالعلمانية على الطريقة الفرنسية، أو أنه يجب أن تلتزم المرأة التي تعمل في الدائرة أو المدرسة العلمانية بلباس قصير، أو بمعنى آخر أن يشمل القرار عدم ستر أطرافها في حصة الرياضة المدرسية!، وأيضاً ماذا عن اللحية للرجل، وماذا عن «البشت» والعمامة و«الشماغ» بدون عقال، وهل سيتم منع دخول من يرتديها إلى دوائر فرنسا الرسمية؟
والعلمانية الفرنسية في مرحلتها «الشعبوية» ظهرت عندما بدأ الإصلاحيون يرون أن الكنيسة هي دولة داخل الدولة، ولها جيش مستقل بذاته هو «المؤمنون»، وهو ما جعل المنفذ الوحيد للخروج من سيطرتها هو اتباع كلمات المسيح حسب الرواية الغربية، والتي تؤكد على ترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ولم تأخذ هذه المحاولات الإصلاحية طريقها إلى التطبيق إلا مع قيام الثورة الفرنسية عام 1789، وإعلان حقوق الإنسان وحقوق المواطن وإعلان قيام الجمهورية الفرنسية، فجاءت تلك الخطوات كي تؤسس، وفقا لمبدأ المساواة، نوعا من التوافق بين الفرنسيين «كان أغلبهم لحظتها ينقسمون بين كاثوليك وبروتستانت ويهود»، لدمجهم جميعاً في الكيان الفرنسي الجديد، ذلك هو أساس علمانية الدولة الفرنسية اليوم، ترتكز على «حرية الفكر» التي لا يحدها شيء، وعلى حرية العقيدة التي يمكن أن يحددها القانون لأسباب تتعلق بالأمن والشأن العام..
لكن الإشكالية التي تطرأ عادة على تأسيس الدساتير تتمثل في تأثير النخب البرجوازية ومثقفيها وقدرتهم على تفسير مبادئ الدستور المعتمد بأصوات الجماهير بما يوافق مصالحهم «الخاصة»، والدستور الفرنسي الذي صدر بعد الثورة الفرنسية يتحدث بإسهاب عن «حقوق المواطن»، وعن الأخوة والمساواة والعدالة، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو من المستفيد من علاقة الاخوة وحق المساواة والعدالة؟ هل هم النخب التي تحاول الحفاظ على مصالحها من خلال التلاعب بتلك المبادئ «الجميلة» في ظاهرها؟ وإذا كان الأمر كذلك كما يتبين في قضية منع الرموز الدينية، ماهي المخاوف التي شعرت بها تلك النخب على علمانيتها «العريقة» عندما قررت منع رمز «الحجاب» الإسلامي، وما الذي جعل النخب «العلمانية» الفرنسية تلجأ للنسخة المقلدة منها والرديئة في تركيا الحديثة، والجلية في خطواتها الأخيرة نحو فرض «مبادئها» على الشؤون الخاصة للإنسان وحريته في ممارسة رموز معتقداته في حياته اليومية، وعلى ترسيخ أحادية جديدة لا تتفق مع مبادئ الحرية العريقة في فرنسا، فهل اكتشفت فرنسا بعد ثلاثة قرون أن اتاتورك هو المؤسس الحقيقي للعلمانية، أم أن مصالحهم اقتضت استنساخ العقل الأتاتوركي ثم فرض أفكاره المتطرفة والأحادية ضد الإسلام..؟؟
والسؤال الذي يظهر بوضوح في سماء هذه الأزمة هو لماذا أيدت بعض «النخب» الثقافية العربية في عالمنا حق فرنسا في إقرار منع «الحجاب» على المرأة المسلمة في الدوائر الرسمية، ولماذا قفزت إلى الساحة الفرنسية لتأييد الموقف الفرنسي الرسمي في مواجهة الثقافة الإسلامية وادنى حقوق الأقلية المسلمة، بينما هي كما يظهر في منتدياتها تناضل في أوطانها الشرقية أحادية الحقوق والرؤية الضيقة والتطبيق الجبري للرداء الإسلامي في الأسواق العامة على المسلمين وغير المسلمين، وما نراه في المشهد الإصلاحي على المستويين العربي والمحلي انهم يطالبون بحقوق للمرأة المسلمة في أن تخرج إلى المجتمع وتمارس أدوارها «بحرية»، وينادون بمجتمع التعددية الثقافية وبحقوق الممارسة الدينية للطوائف والأقليات الدينية فيها، ولكنهم في زاوية أخرى من ذلك المشهد يفاجئون الجميع بمساندتهم لحق حكومة فرنسا في إصدار ذلك القرار الأحادي والضيق والذي يفرض منع «الحجاب» في مهد فلسفة الحداثة ومابعد الحداثة..
ولعل إحدى أزمات بعض المثقفين العرب قدرتهم البارعة في تقزيم مشكلات الوضع العربي وازمته الحضارية في مسائل «الحقوق» الخاصة، فهم بهذه الرؤية «الشخصية» للإصلاح يخوضون معركة خاسرة في وجه الفكر الشعبوي الإسلامي، فالتغيير والإصلاح الحقيقي لا يأتي من خلال تحقيق انتصارات على هامش اهتمامات المواطن، ولكنه سيجد العون والتأييد من خلال المطالبة بمنح الجميع حقوقاً متساوية، وغير قابلة للنقض في مستقبل الأيام كما هو الحال في المثال الفرنسي، والإصلاح الذي يبحث عنه إنسان الشارع يختلف تماماً عما نراه على شاشات بعض الفضائيات، وأي محاولة «لاختصار» ذلك في نزع حجاب امرأة تؤمن بوجوب إرتدائه هو تقزيم واستهتار بمطالب الإنسان الضرورية..
والإشكالية هي أن الإنتلجنسيا العربية ضعيفة التكوين ومصابة بداء «التسول» الثقافي، ولم تتكون كما تكونت في أوروبا؟، فهي مجرد صور عابرة في مشهد متقن، ولعل تكرار نماذجه في تاريخ الأمة الطويل منذ محنة المأمون إلى صراعات الحرية «الاجتماعية» في القرن الماضي دليل على فقدان العقل العربي لاستقلاله وموضوعيته، ولا مجال للعجب فلم يحدث في تاريخنا الحديث أو القديم مثلاً عصر للتنوير ولا عصر لثورة علمية او صناعية ولا انقلاب على مفاهيم سائدة منذ القدم، فكل ما يحدث عندنا منذ الحملة الفرنسية 1789م لم يكن إلا اتجاهات توفيقية وانتقائية من إنتاج الحداثة الغربية، يتم إختيارها بحذر شديد ثم وضعها في قوالب معدة وجاهزة وموجهة ضد اختيارات ومبادئ ومطالب المجتمع «الضحية»..
الجدير بالذكر أن لجنة الحكماء التي حملت اسم ستازي «برنار ستازي هو الذي ترأس الأممية الديمقراطية المسيحية بين عامي 1968 و1993» وضمت مجموعة من أعلام الفلسفة وعلم الاجتماع في الديار الفرنسية، من أمثال ريجيس دوبريه، آلان تورين، باتريك فييل، ريمون ريني، جيل كيبل وضمت، من الجانب العربي الإسلامي، كلا من محمد أركون وعالمة الاجتماع حنيفة شريفي..
وقبيل ذلك بسنوات.. تساءل المفكر الفرنسي «ريجيس دوبريه» أحد أعضاء لجنة الحكماء عن «ما جدوى أن يكون المرء مثقفاً»؟ في كتابه «كي لا نستسلم 1995» والذي حرره مع المفكر السويسري جان زيغلر، ويبحث عن أدوار المثقف في العصر الحديث وتأثير دوائر الضوء في عصر سيطرة الإعلام المرئي على موضوعية المثقف ومنطقه التحليلي، وهو الكتاب الذي كان تمهيداً لصدور كتابه الجديد «المثقف الفرنسي: تتمة النهاية 2000» والذي ينعى فيه نهاية المثقف الفرنسي بعد عمر طويل، وكأني به يتنبأ بنعي موقفه الأحادي كما ظهر بوضوح في قضية منع «الحجاب» والرموز الدينية في الدوائر الرسمية..
|