تتسع الآمال.. فتمحو الآلام والشجن في النفس.. فلم يعد الساري يمزق بعضه بعضاً ولا يلعق جراحه فتطيب أدواؤها ولا يقتصر له طموح.. بل يمتد.. مردداً قول الشاعر:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!!
وترتاح النفس لكلمة «الأمل» ففيها من الجرس وقع تهنأ له هذه النفس وترتاح إلى فيئه... وتعود سدفات الأمل إلى الانفتاح بعد انغلاقها زمناً.. أمام جفاف الأفاويق التي لابد من أن ترويها ثوابت لا يروم عنها الساري ولا يحيد عنها قيد أنملة.
إن ألقاً في السماء يضيء كل الأفق، وينير الدروب فتطمئن خطاه.
وقد تاهت «الاستيافات» من عالمه وامَّحت وغدا «الصمت» يتسربل في الكون بعيون أنهكها الأرق.. فها هو اليقين يشعّ فيها فلا تقوى على النظر و«البحلقة» فيه.. بل تنحسر عند «شقاء الظنون».. وهنا يكمن جوهر القضية.
إن وهج الحق لا يخفى، بل يظهر تحت ديمة تطل على سمائه.. فتنزل منها قطرات المطر كأنها أنامل فجر ندي تداعب شعر حسناء ألقت بعنقها إلى الفجر باسمة فتوارت الشمس متكئة خلف الغمام عنها.. مفسحة لها آفاقاًِ تبسم إليها فتزيدها بهاء ورحابة..
وتلملم أنامل الفجر الأحزان وتنأى بها بعيداً عن الساري.. فيواصل ظعنه والأفق أمامه أرحب والأرض من تحت أقدامه أصلب.. ينتضي حوافزه الفريدة فتتصالح نفسه مع ذاته، ويحدو بظعينته.. فتطرب لحدائه، مردداً:
أقَدِمْتَ من غيبِ الزمان
وأقمت في طيب المكان؟
أم أنت سرٌّ يا حبي
ب الروح جئت على أوان؟
أم كنت في الأزل المخَبأ
من فراديس الجنان...؟
أضفى عليك الله من
أنواره... نور البيان
في «مكةَ» ابتدأ الجلا
ل ... على «حراء» وآيتان
وتنزلت أي الكتا
ب... «اقرأ» فماجت قمتان
حنّت اليك ربى المدين
ة.. أرضها.. والفرقدان
فهنا «ثنيّات» الودا
ع.. «تهلّلت... و«الحرتان»
و«قباء» مدَت قلبها
مشتاقة... و«القبلتان»
واخْضَرَّ من «وادي العقيق»
على خُطاكم جنتان
واشتاق «سلع» و«الغمامة»
للحبيب وربوتان
والقمة الحمراء في
«أحد».. عليها بسمتان
لقدوم خير الخلق الْ
قَتْ رحْلَها لك والعنان
وتهيّأت «للمصطفى» ال
مختار «طيبة».. غنوتان
لو أنها تمشي.. مشت،
سبقت خطاها خطوتان
وعلى امتداد العين يا
عيني ترامت نظرتان
من حولك الجنات قد
ماجت.. فماج المهرجان
من كل ألوان الغنا
ء تناغمت عصفورتان
و«القبة الخضراء».. با
هرة السَّنا والضّفتان
وْالرّوضَةُ العذراء». و«ال
منبر» خيراتٌ حسان
فإذا المدينة كلها..
نور وحب وامتنان
اختارها الله الكريم
فَزُيِّنَتْ.. وزَهَا المكان
قد طيّب الله المدينة...
طيِّبَتْ... والدوحتان
فترا بُها كحل العيو
ن، ترابُها.. والمرودان
نعم التراب.. ونعم ما
يغشاه من فيض الحنان!!
ويأتي صوت حادٍ ثان يصيخ له الساري سمعه، وهو يردد:
يا للهوى لسويعات مضت بقبا
وللعوالي بقلبي وخزمران!!
قربان روحي أفديه لرؤيتها
ياليت شعريَ هل أحظى بقربان؟
واحر قلبي على وادي العقيق فكم
أجرته عيناي منظوما بعقيان!!
لذلك السيح ساحت عبرتي وغدت
تسقي النّقا ولكم سالت ببطحان
يا حادي العيس قف هذا البقيع وذا
سلع فإن به روحي وريحاني
عاف الزمان بنا رغما ففرقنا
يا للرجالِ لهذا العائد الجاني!!
أواه من حر الفراق وما
يبقى من الوجد في احشاء ولهان!!
ويحط الساري رحله على أديم انتشرت على جوانبه الازاهير بعد أن كان يبساً لا حياة فيه.. همست في اجوائه الرياح أياماً وليالي طوالاً، وسمع بهمسها الزهر فتساقطت اوراقه واحدة تلو الأخرى تدوسها الاقدام غير آبهة بها...
وعلى امتداد عينيه امتد على الأرض بساط اخضر من الحشائش الصغيرة.. فاستلقى متكئا على ربوة من الربى فاستمع الى صوت الحشائش.. يبعثه النسيم مارا بها فأطربه ذلك وشعر بالجذل.. ووقفت على ربوة قريبة منه غزالة هائمة.. ضلّت الطريق، أخذت في الالتفات يمنة ويسرة، باحثة عن قطيعها... حدّث نفسه بالاقتراب منها ومحادثتها.. لكنه عدل عن ذلك، فهو يعرف النتيجة مقدماً.. فلم يقطع عليها خواطرها الحائرة،... وفجأة شعر بأنها تلتفت إليه.. تستجديه أن يدلّها على قطيعها الذي يضم أمها وأباها.. فاقترب منها بحذر وهي واقفة تنتظر قدومه.. وحينما وقف إلى جانبها.. رَبَّتَ على ظهرها فجفلت قليلاً منه، ثم ولّت هاربة منه مطلقة ساقيها للريح.. وأخذ يتأمل رشاقة عَدْوهَا وخفّته وسرعته... ودنا من المكان طيف إنسان.. تلته طيوف كثيرة.. كلها تمثل أناساً عرفهم الساري في طريقه.. بعضهم ذو أثر والبعض لم يكن له شأن في حياته.. سكبت الأشواق إلى بعضهم أدمعا من مقلتيه، وارتسمت الابتسامة على شفتيه لتذكره بالبعض وتجهم وجهه للبعض أيضا.. وانضوى الحنين إلى الأصفياء منهم على شوق عارم، وعانق الخيال نجواهم فقرّبه منهم وقرّبهم منه.. فلكم تساقوا معه خواطر جميلة لم يتسربل الشقاء بالصمت إليها ولم تحدث ثقوب في آفاقهم فتكون السماء داكنة السواد بذكراهم، مكتئبة الحشا.. ثخينة الجراح، «تَسْتَافُ» أنباض قلوبٍ مرزّأة فلا تجري فيها الدماء!! بل لطالما اتخذ من جفونهم متكأ ومن أعينهم مرقداً!!
ويؤثر الساري جعل مساحة للصمت فهو يطيل الشوق إلى الجمال فيلقي بنثار على الكون الفسيح يفترش جيد الذكرى كأنه حبات لؤلؤ بديعة، ولا يتوقف حديث الحب أو ترتعش الشفاه به.. فالوقار يجلل آفاق الحب فلا تنخدش بلورته متحطمة تحت أقدام الطيش.. وتحيلها اللحظات الصاخبة آلى واقع مأساوي تنبعث منه أنات الضمير مموسقة للصخب ذي الوقع المدوي.. تقطع أرجاءه وهو يصحو من غفوة طالت في تيه غريب وسفر طويل.. تلبدت فيه الغيوم في السماء وزمجر الرد وزعقت العواصف فيها بين زخات المطر القوية.. يصاحبها برد كثير..
والإيثار هنا لا يتغير، فهو إيثار يؤكّد فرار الساعات والدقائق والثواني من طول الانتظار.. وصلابة الوقوف على الأرض تؤكد عمق المبدأ وثباته..
1 إنها ترسخ في الاذهان معنى الحب العميق وتغلغله في النفس الطيبة.. بكلمة طيبة {أّصًلٍهّا ثّابٌتِ وفّرًعٍهّا فٌي السَّمّاءٌ ، تٍؤًتٌي أٍكٍلّهّا كٍلَّ حٌينُ } .. تمسح دماء جراح غنّت في تكسرات الوجدان المرهف الذي بات يوماً قاعاً صفصفاً.. ثخين النزف، دمويه، لا لسان صبور يلعقه ولا إنزيم يشفيه ولا ترياق يكون له بلسماً شافياً.. ليعيد ندى رضابات الشوق على الشفاه المكتظة بالوجد بلهفة اللقاء والعناق.. معلنة انتهاء الهجر والحرمان والنوى..
ويا لَلحبور يملأ النفس رضاً وطمأنينة حينما ترامى إلى سمع الساري صوت حاد ثالث يردد:
يا خير من دفنت في الترب أعظمه
فطاب من طيبهن القاع والأكم!!
نفسي الفداء لقبرأنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
* وهو القائل أيضاً: {فّلٌلَّهٌ الحّمًدٍ رّبٌَ السَّمّوّاتٌ ورّبٌَ الأّرًضٌ رّبٌَ العّالّمٌينّ، ولّهٍ الكٌبًرٌيّاءٍ فٌي السَّمّوّاتٌ والأّرًضٌ وهٍوّ العّزٌيزٍ الحّكٌيمٍ} *الجاثية: 36 - 37* ، وما توفيقي إلا بالله.