في صفة حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه أوفى الروايات:
قال مسلم - رحمه الله - في صحيحه، بشرح النووي الشافعي، على باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيه حديث جابر رضي الله عنه، وهو حديث مشتمل على جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وهو من إفراد مسلم ولم يورده البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم. قال القاضي: وقد تكلّم الناس على مافيه من الفقه وأكثروا.. أما نص الحديث فهو:
«عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبدالله، فسأل عن القوم حتى انتهى إليَّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده على رأسي. فنزع زرّي الأعلى، ثم نزع زرّي الأسفل، ثم وضع يده بين ثدييّ، وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحباً بك يا ابن أخي، سَلْ عمّا شئت.. فسألته وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة، فقال في نساجه «أي ثوبه» ملتحفاً بها، كلما وضعها على منكبيه، رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب، «صلى بنا. - أوردت هذه الصفة ليعلم القارئ ما عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البساطة، والتلطّف في الجواب وتعليم من يسألهم وعدم كتمان العلم:
قال محمد: فقلت: أخبرني عن حجّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بيده، فعقد تسعاً، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ، فقدم المدينة بشرٌ كثير، كلّهم يتلمّس أن يأتمّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس، محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف، أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب، وأحرمي.
فصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرتُ إلى مدّ بصري بين يديه، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن.
وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهلّ بالتوحيد: لبيك اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهلّ الناس بهذا الذي يهلوّن به، فلم يردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً منه، ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته.
قال جابر - رضي الله عنه -: فلسنا ننوي إلاّ الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا انتهينا إلى البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: {واتَّخٌذٍوا مٌن مَّقّامٌ إبًرّاهٌيمّ مٍصّلَْى} فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلاّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعتين: {قٍلً هٍوّ اللَّهٍ أّحّدِ } و{قٍلً يّا أّيٍَهّا الكّافٌرٍونّ }.
ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: {إنَّ الصَّفّا والًمّرًوّةّ مٌن شّعّائٌرٌ اللَّهٌ} أبدأُ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبّره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
ثم دعا بين ذلك، قال: مثل هذا ثلاث مراّت، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبَّتْ قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعّدنا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، قال: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، لم أَسِق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي، فليحلّ وليجعلها عمرة فقام سراقة بن مالك، فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبّك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه، واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج. مرّتين لا بل لأبد آبد.
وقدم عليّ من اليمن ببدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد فاطمة - رضي الله عنها - ممن حلّ ولبست ثياباً صبيغاً، واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، فكان عليّ يقول بالعراق، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - محرّشاً على فاطمة، للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرتْ عنه، فأخبرتُهُ أني أنكرت ذلك عليها.
فقال: صدقَتْ صدقَتْ، ماذا قلت حين فرضْتَ الحجَّ، قال: قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدي، فلا تحلّ.. فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة.
فحلّ الناس كلّهم وقصّروا، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجّهوا إلى منى، فأهلّوا بالحج، وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تشك قريش ألا أنه واقف عنه المشعر الحرام له، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبّة قد ضربت له بنَمِرَة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، الأ كل شيء من أمر الجاهلية، تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا، دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل.
وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عبّاس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كلّه.
فاتّقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنّ بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألاّ يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرّح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده، إن اعتصمتم به: كتاب الله.
وأنتم تسألون عنّي، فما أنتم قائلون: قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت، فقال: بأصبعه السّبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس، اللهم اشهد اللهم اشهد، ثلاث مرات،
ثم أذنّ ثم أقام فصلىّ الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلّ بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصّخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد شنق للقصواء الزّمام، حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس.. السكينة السكينة، كلمّا أتي جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً، حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد، وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئاً، ثم اصطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طلع الفجر. «للحديث بقية».
دهاء عُمارة بن تميم:
جاء في المحاسن والمساوئ: أن الحجاج بن يوسف كان حسوداً لا تتم له صنيعة حتى يفسدها، فوجّه عمارة بن تميم اللخميّ إلى عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث، فظفر به وصنع به ما صنع، ورجع إلى الحجاج بالفتح، فلم ير منه ما يحبّ، وكرَه منافرته، وكان عاقلاً رفيقاً، فجعل يترفّق به، ويداريه، ويقول: أنت - أيها الأمير - أشرف العرب، فمن شرّفته شرف، ومن وضعته اتّضع، ومن ينكر ذلك، مع رفقك ويمنك ومشورتك ورأيك؟
وما كان هذا كلّه إلا بصنع الله عزَّ وجلَّ وتدبيرك، وليس أحد أحقّ بشكر صنيعك منّي، ومَنْ ابن الأشعث؟ وما خطره؟
ثم عزم الحجاج على المضي إلى عبدالملك، فأخرج عمارة معه، فلم يزل يلطف بالحجاج في مسيره، ويعظّمه حتى قدموا على عبدالملك.
فلما قامت الخطباء بين يديه، وأثنت على الحجاج، قام عُمارة فقال: يا أمير المؤمنين، سَلِ الحجاج عن طاعتي ومناصحتي وبلائي، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين: صنع وصنع، ومن بأسه ونجدته وعقله ومكيدته كذا وكذا، هو أيمن الناس نقيبة، وأعلمهم بتدبير وسياسة، ولم يُبْق غاية في الثناء عليه.
فقال عُمارة: أرضيت يا أمير المؤمنين؟. قال: نعم فرضى الله عنك، حتى قالها ثلاثاً في كلها يقول: رضيت.
فقال عُمارة: فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين، ولا حفظه ولا عافاه، فهو - والله - السيئ التدبير، الذي قد أفسد عليك أهل العراق، وألّب عليك الناس، وما أُتيتَ إلاّ من قلّة عقله، وضعف رأيه، وقلّة بصره بالسياسة، ولك والله أمثالها إن لم تعزله.
فقال الحجاج: مَهْ يا عُمَارة!!. قال: لا مَهْ ولا كرامة يا أمير المؤمنين، كل مملوك له حرّ، إن سار تحت راية الحجاج أبداً، فقال عبدالملك: ما عندنا أوسع لك.
فلما انصرف عُمارة إلى منزله بعث إليه الحجاج، وقال له: أنا أعلم أنه ما خرج هذا عنك إلاّ عن معتبة،، ولك عندي العتبى.. ولك ولك: فأرسل إليه: ما كنت أظنّ أن عقلك على هذا!! أرجع إليك بعد الذي كان من طعني وقولي عند أمير المؤمنين.. لا والله ولا كرامة لك «ص139».
|