Thursday 22nd January,200411438العددالخميس 30 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

من أين أتينا من أين أتينا
التفرد .. حضارتنا التي قد تبيد
د. عبدالله بن ناصر الحمود(*)

تبقى النفس البشرية محبة لصفات الكمال ولسمات النبل، تقيس بها الأفعال وردود الأفعال تجاه الناس والأشياء. وتبقى السيادة في العالم الإنساني للإنسان المنتج المبدع الذي يُشغل الآخرين بما يتفتق عنه فكره مما لم يسبقه إليه أحد. أو الذي يأتي بما لم يأت به غيره مما يسنده الدليل العقلي والحسي في المقام الأول. وهنا يكمن سر سيادة الأمم والشعوب بعضها بعضا. وهكذا برزت الحضارات السائدة على مر العصور البشرية. ومن السنن الظاهرة، أن بقاء تلك الحضارات في أوج سيادتها وهيمنتها مرهون بمدى قدرتها على الإبقاء على سر سيادتها المتمثل فيما أنتجته للبشرية مما لم يتح للسابقين، وتطوير قدراتها ومهاراتها في هذا التفرد. خرج الفراعنة بحضارة عظيمة قامت على علوم الطب والتحنيط والبناء والتشييد، فكوّنوا حضارة لا تزال باسقة إلى اليوم، لكنهم طغوا وأفسدوا وعلوا، فمضت عليهم سنة الله تعالى. وجاء السومريون بمنتج ابداعي جديد لم يسبقوا إليه تمثّل في الكتابة والتدوين، فأنتجوا الحضارة السومرية وسادوا بها ثم البابليون الذين أبهروا أهل زمانهم بعلوم الفلك والتنجيم وسن التقاويم وتحديد الزمن، فأبدعوا حضارة لا تزال آثارها إلى اليوم ماثلة في تقسيم اليوم إلى اثنتي عشرة ساعة. وأبدع الفينيقيون في ركوب البحر وبناء السفن.
وجاء اليونان ليشغلوا العالم بالفكر والفلسفة وليكوّنوا حضارة باسقة سادت ثم بادت. وساد أيضا الفرس والرومان بمركبات القوة والعنفوان. ثم في عصر كل رسول من رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام كانت تبنى حضارة تسود حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، فيعمل أبناء الحضارة على زوالها من حيث يعلمون ولا يعلمون. وجاءت رائدة الحضارات الإنسانية كلها (الحضارة الإسلامية) ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فأشرقت الأرض بكل سمات الكمال البشري وملئت عدلا بعد أن ساد فيها الجور، وعمّت سمات التآخي والبذل والعمل من أجل الدنيا والآخرة في معادلة لم تشهدها العصور التي بعث النبي الأمين فيها. وازدهرت بذلك بوتقة عظيمة جمعت كل محاسن الحضارات السابقة وقدمتها للإنسانية في بناء أكثر تماسكا وأعظم قيمة، مسنودة بالوحي الإلهي من لدن العليم الخبير. وتوالت القرون على هذه الأمة المسلمة في شموخ عظيم تمكنت معه أن تبسط كيانها على كل بقاع الدنيا، مهتدية بخير مصادر الدنيا من النقل والعقل.. وسادت .. ثم سادت.. حتى حادت.. أو هي كادت أن تحيد، عندما دخل في مركبات سيادتها ما لم يسُد به صدرها، وعندما تبدلت الغايات والأهداف لكثير من كياناتها. مؤذنة بظهور الثورة الفرنسية المتمردة على الكنيسة الأوروبية باعتبارها محاولة غربية لتقديم نموذج آخر يزعم أنه حل لمشكلات البشرية. ولأن الفرنسيين الثائرين قدموا أطروحتهم للتحرر من قيود الكنيسة، وفتح المجال للعلماء والمفكرين، فقد أتوا بما كان الناس يرتقبون، فهجرت كيانات كثيرة أبواب الكنيسة، أو هم رأوا أن الكنيسة يمكن أن تكون اثنتين، واحدة لهم والأخرى لغيرهم ممن لا يزالون يرزحون تحت الهيمنة. وتشكّلت بذلك كيانات مستضعفة أو هي رأت أنها كذلك فهجرت أوروبا كلها إلى العالم البعيد (أمريكا) لتتكوّن - هناك- حضارة المسموح، والمباح، وتهميش التدين، وليسود مبدأ مناصرة الأفراد، وبزوغ فجر الديموقراطية الأمريكية، وهي أمور لم تكن شيئا مذكورا عند انشقاق الغربيين على كنيستهم. وتتكون أمريكا المناصرة للحقوق والقائمة على العدل والمساواة. وتسود.. ثم تسود.. حتى حادت.. أو هي كادت أن تحيد، عندما دخل في مركبات سيادتها ما لم يسُد به صدرها، وعندما تبدلت الغايات والأهداف لكثير من كياناتها. وصار ذلك كله ليصحو العالم اليوم على واقع حضارتين سائدتين، لكن كلا منهما لم يعد كما كان. جنحت حضارة أمريكا نحو البطش وتقلّب الموازين، وجنحنا نحن نحو الغلو والتطرف. وحتى نبيد أو لا نبيد، ستمضي سنة الله أن لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

(*) عميد كلية الدعوة والإعلام بجامة الإمام


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved