كانت الأستاذة الجامعية تخصص «علم اجتماع» ترسم للطالبات في مقرر مناهج البحث العلمي على السبورة جسد يرقة، وتكتب عليه كلمة المعرفة العلمية. تترك الكتلة الغامضة خلفها وتبدأ الشرح الذي تسترسل فيه على مدى عدة أسابيع متواصلة بواقع ثلاث ساعات في الأسبوع. تستعين خلالها بعدد لا بأس به من العلماء، وتعود إلى عدد من المراجع. وتثير عليها حفيظة عدد الطالبات أو عاصفة من التذمر المستتر بدعوتهن إلى قراءة عدد من البحوث التطبيقية ومراجعة البحوث السابقة في الموضوع المقرر وبمطالبتهن بتقديم قراءة نقدية لنخبة مختارة من تلك البحوث في محاولة مستميتة منها لقطع الطريق على تلك العادة المعيبة المستشرية بين عدد من الطلاب والطالبات معا في الالتجاء إلى مكاتب خدمات الطالب لإنجاز البحوث الجامعية المطلوبة. ومع نهاية الفصل الدراسي تعود تلك الأستاذة الجامعية الى تلك الرسمة التي كانت قد رسمتها على السبورة بداية الفصل الدراسي وربما خال بعض الطالبات أنها نسيتها، وتسأل الطالبات فيما يعتبره البعض استفزازا غير مريح، وما يعتبره بعض آخر تحديا معرفيا يتبارين على التصدي له أن يقمن بإكمال الرسمة. لم يحدث أن أخفقت الطالبات إلا في مرات نادرة في إكمال تشكيل الرسمة. فكانت تدهشها الكيفيات المبتكرة التي يتوصل إليها بعض الطالبات في إكمال الرسم الناقص على السبورة فتنادي الأستاذة الجامعية عدداً من زميلاتها اللواتي طالما شقين باللامبالاة من الطالبات وطالما تشكين أو تأسين على سلبية الطالبات لتشركهن في دهشة القدرة الكامنة لدى هؤلاء الطالبات. هل أصبح لديكن ما يكفي لتعرفن الاخراج النهائي للرسم؟
هل تردْن أن تعرفن كيف يحوِّل الفضول المعرفي اليد إلى أداة للعمل؟! وكيف تُحوِّل ملكة الاطلاع القراءة الى ينبوع يفور او واحة تتحدى عطش الصحراء؟!
تقوم شابة صغيرة ممشوقة بالأسئلة والثقة وتجرب أن ترسم على يمين اليرقة جناحاً، تأتي طالبة ثالثة ورابعة وعاشرة يقطرن حياء وجرأة وحماساً وهن مرفوعات الرأس ويرسمن جناحاً آخر على شكل مفتاح وبين محاولة وأخرى تتحول اليرقة إلى فراشة قلبها المعرفة العلمية. احد جناحيها البحث النظري والجناح الآخر البحث الميداني أو العمل الحقلي.
كانت أستاذة جامعية وهي طالبة دكتوراه في نفس الوقت تخصص جغرافيا تأتي بدلو فارغ في بداية العام الدراسي ولا تترك قاعة الدرس قبل اسبوع الاختبارات إلا وقد صار الدلو يفيض ماء وقد شاركت الطالبات في ملئه قطرة بقطرة.
كانت مجموعة من الطالبات تخصص رياض أطفال، يأتين بالصلصال ويشكِّلن على الرمال الجرداء مدارس جديدة على شكل سفن تبحر أو طيارات ورقية تحلق باتجاه المستقبل فيما ينفخن من أرواحهن في الريح لئلا تتحول عن الاتجاه الصحيح.
وكانت مجموعة أخرى من الشابات تخصص أدب إنجليزي ولغات يَجُبْن السبع قارات ويتبادلن مع سكانها آلام وآمال الكثير من الخبرات وأخيلة الأساطير والحكايات.
يمر أمام عيوني في ليلة حفل التخرج من الجامعة هذا الشريط شبه سريالي أو المشفَّر الحافل في الحالتين بصور من الحياة الجامعية للطالبات.
فتتدفق حولي رحلة أربع سنوات لطالبات من مختلف التخصصات على مقاعد الدراسة الجامعية أرى أولئك الطالبات اللوائي اغتربن وهن في الثامنة عشرة وحناء أعياد الطفولة على أكفهن بعدُ طرية، جئن من القطيف والهفوف من نجران وظبى من صبيا والباحة وسكاكا ليسكن في السكن الجامعي أو في شقق مستأجرة داخل حجرات مؤثثة بالوحشة ولوعة الفراق الأول لحضن الأمهات.
أرى أولئك البنات اللواتي يحضرن يوميا من الخرج ورماح في سيارات غير مريحة ليكون لهن نصيب من رغيف المعرفة الحلال، أو رشفة من زلالها. أرى تلك الهيفاء الرقيقة وهي تركض في غبش الفجر خلف الأتوبيس لئلا يفلت منها ريش النهار. أرى تلك التي تضيء الليل بقنديل عينيها وهي بحنان أمومي مبكر تنحني الى وجه الصبح على الكتاب. تطل تلك الصبية تسبقها بطنها المتدلية مثل عريشة صيف محملة بالعناقيد وهي تحاول أن تؤجل تاريخ الولادة الى ما بعد أسبوع الامتحان.
أُبصر على مدِّ البصر أولئك الفتيات النحيلات وقد لوحتهن شمس رحلة التعليم الجامعي فحولتهن إلى نساء متوثبات لمرحلة جديدة. أبصر هؤلاء الصبايا بعيون خيالي وهن متشحات بأثواب التخرج السوداء يفضن ألوانا بعدد درجات الطيف فأبتسم على سعة قلبي، وفي سري أقول مرة أخرى كما قال الشاعر الإفريقي: ياللروعة أن المستقبل أسود.
أغمس أصابعي في رغوة اللغة وأسأل برهبة وارتباك طفلة تتعثر في كتابة موضوع التعبير، وكأنني لم أكتب حرفا في حياتي قبل هذا المقال عن حفل تخريج الجامعة لدفعة 1424. ما هو شعور تلك الأم التي تحملت «قيء» الوحام وتشقق البشرة ووجع الطلق وروعة الألم المرعب لحظة الولادة وهي ترى تلك الطفلة التي حبت على حضنها في الأمس القريب ولازالت تحتفظ بسنتها الأولى في معطف الشتاء ولا يزال مريولها الرمادي للمدرسة الابتدائية على الحبل لم يجف كما أن صوتها في إذاعة المدرسة يختلط بصوت مناغاتها ويرنُّ في أرجاء القلب وقد بزغت تلك الصغيرة فجأة لتقف شامخة في حفل التخرج من الجامعة؟
وهل لتلك الأم وهي ترى ان الله قد بلَّغها يوم تخرج ابنتها من الجامعة إلا أن تملك من الكبرياء والاعتزاز ما يجعلها قادرة وراغبة من أعماقها بأن تصفح عن كل ما عرفته البشرية من إساءات وتسامحَ كل ما قد يكون مر بها من قسوة الحياة أو صعوباتها مقابل نعمة هذه اللحظة من نعم الله.
من يملك غير الامهات ما يكفي من دموع الفرح ليسقي البساتين ويُخِّضر الصخر ويجري الزهو مجرى الدم في عروق البنات بهذه المناسبة الغالية.
ومن غير هؤلاء البنات ليحملن حرير الأحلام رحب الوطن نحو مستقبل أجمل من أمس الأمهات؟ من سواهن يستطيع أن يخيِّب ظن من يسيء الظن في طاقة النساء على مشاركة البلاد في السراء والضراء؟!
أسأل فلا تمهلني مسيرة الخريجات وهي بشجاعة تتقدم مني وتعطيني الجواب.
* لتلك التي كللتني بغار نجاحها:
طفلة من برد وبروق.
أشرقت على هذا الوجود
شفيفة مشرئبة
شبت على الحرية والحياء
خبز وملح العذارى
لقامة لا تنحني إلا لباريها
تحفها أهداب ساهرة
وابتهالات حرَّى
بسقت الصبية
شابة
من رفيف الأجنحة
من طل الصبح
وشهقات البحر
تمشي
فيسري النسغ
في أقلامي
ويتشبه بشموخها الشجر
أزاحت الحورية
الجبال بحرير يدها
قطفت التفاحة بكفاحها ومرحها
دخلت الحياة
من أوسع أبوابها
باب المعرفة
باب الحلم
والإباء وسع لها الباب
فأي الأفلاك
وأي الكواكب
تسع فرحتي
ومن غير كل
ما على الأرض
من عشاق
وأطفال
وأهل وأصدقاء
وناس
أدعوهم جميعا
ليقاسموني نشوة
السلسبيل
فتقدمي أيتها المتحالفة مع الوقت
وواصلي النجاح
بإذن الله
|