د. يحيى بن عبدالله السعدي /العميد السابق لكلية الشريعة وأصول الدين وعضو هيئة التدريس بها في جامعة الملك خالد
منذ أيام قلائل رزئت الأمة بفقد علم من أعلامها، وحبر من علمائها، وركن من أركانها. عاش قرناً من الزمان، فكان حقبة مضيئة في جبين الدهر، وغرةً لامعة في جبين العصر، بما حوت ذاته المعطاءة من شيم النبل، وغرائز الفضل.
مضى طاهرَ الأكفان لم تَبْقَ روضةً
غداةَ ثوى إلا اشتهتْ أنها قبرُ
كان طوداً شامخاً في خلائقه وآدابه، ذا نفس كثرت مروءاتها، وتسامت للعلا أحلامها، فَحَلَّ مكاناً تعالى عن الأحقاد، وتجافى عن الأضداد، عرفناه تالياً للقرآن آناء الليل وأطراف النهار، لا يفتأ لسانه عن تسبيح أو تهليل أو تكبير او قول معروف، أو أمر بإحسان، يده دائماً بالخير مدرارة لمواساة فقير أو محتاج، أو عابر سبيل أو سائل أو معتر، يحب الخير وأهله ويحنو على الفضل بقدر سهمه.
راحةً برةًَ وصدراً فضاءً
وزكاءً تبدو له الأسرارُ
لا يمل البر والإكرام، ولا يسأم من بذل الإحسان، مع جميل المعاملة للصغير والكبير، وخالصة الإخاء لأصحابه، ومحَّض الصفاء لأصفيائه.
من ليس في خيره شرَّ يكدِّره
على الصديق ولا في صفوه كدرُ
كنت أحضر مجالسه متعهداً له بالزيارة والسلام، أو بدعوة منه، فأرى كل من حضر لا يكاد يخرج أحد منهم إلا بفائدة ولا يبقى صاحب عقل فهم إلا عرف من نفسه الزيادة إمَّا في العلوم وإمَّا في الآداب أو السلوك أو المعاملة.
شيمٌ يرتضعن درَّ المعالي
ويعبَّر عن نسيم العبير
وسجايا كأنهنَّ لدى النشر
رضابُ الحيا بأَرْي مشور
كلمَّا لمحت ذلك تذكرت مقولة عبدالله بن المبارك رحمه الله عندما قيل له وقد سافر إلى أين يا ابن المبارك؟ فقال إلى البصرة. قيل من تقصد هناك؟ قال ابن .... - وكان من علماء السنَّة المشهورين - آخذ من أخلاقه وآخذ من آدابه.
أرى ذلك المجلس يضم من كان على قدمٍ في العلم، ومن كان من طلاب العلم، ومن كان من عامَّة الناس وأراه وهو يخاطب تلك الشرائح بما يتلاءم مع كل طبقة بسعة صدر، وجميل بر، ونصح في الحضرة والغيب.
إذا حكى عن تاريخ قرنه نجده يروي أروع ما فيه ويحلَّل أحداثه بما وهبه الله من ثاقب نظر، وما آتاه الله من قوة بصر، ويلمّح إلى ما حواه من ادَّكار وعبر.
وإن جرت المباحثة في ميدان الفقه تجده فقيهاً مبرزاً يحفظ من نفائس متونه.
كان رحمه الله إن تحدث في السيرة فلكأنها في خياله دائمة الإقامة تجري على لسانه وقائعها وأحاديثها سلسلة رقراقة مع الوقوف عند معاقد المواعظ منها ومناحي الحسن فيها.
يحفظ من عيون الشعر والأدب وفرائد الأبيات الكمَّ الهائل حتى لظننت أنه يحفظ أكثر ديوان المتنبي وديوان ابن عثيمين العقد الثمين كان يلاطف جلساءه ولا يذكر أحداً بما يحقَّره أو يشينه كلاَّ بل إنه إن ذكر احداً ذكره بأحسن ما عنده وأروع ما يحبه ويدعوه بأحسن أسمائه أو القابه.
ولا يقبل أن يُغْتَابَ أحد في حضرته فإن زلَّ أحد من الحاضرين في ذكر لخلة أحد ردَّ ذلك بألطف أسلوب وأرقى عبارة مع قرن ذلك بالدعاء للحاضر والغائب بقصد في الهدى وسداد في السمت.
ولي القضاء عقوداً عديدة فسمعنا عن حسن قضائه وجودة قريحته وفراسته وتوفيقه في حل معضلات المشكلات والسعي للإصلاح ما وجد لذلك سبيلا، يتحلَّى بقوة التحمل وسعة الصدر، ورشاد الرأي ووقار الحِلْم ووفرة العلم والفهم لم يغضب فيه لذاته ولم يعرف عنه أنه انتقم يوماً ما لينتصر ممن شنَّع عليه أو تطاول، سعى في خصومات ومنازعات دامت أكثر من قرن فوفقه الله للبتَّ فيها وكان يدافع دائماً بالتي هي أحسن.
حوى شيماً كانت تروح وتغتدي
وسائل من أعيت عليه وسائله
ويبتدر المعروف تسري هباته
إليهم ولا تسري إليهم غوائله
وإن شمت الخبر عن جوده قد عرف كريماً سخياً لا يخلو منزله من ضيف أو زائر وهو حفيَّ بكل قادم إليه حتى ولو لم تكن له به معرفة نرى دائماً منزله يقصده مشاهير علماء بلادنا وقاداتها وكبار المسؤلين فيها ووجهاء الناس وأعيانهم فكان للجميع أباً مكرِّماً متهلَّلاً لا يرى به تجهم ولا عبوس ولا ملل ولا ضجر.
فلله كيف كانت تلك المبادئ والقيم تجول بين الناس قرناً من الزمان ما اختلَّتْ ولا تخلّتْ بل كلما تتابعت الأيام نمت وربت وأنبتت روائع المثل.
دررٌ تعيش الأذن في نغماتها
بمطرَّز عذب وغير مطرَّزِ
كان من الطبيعي عندما يُذكر في أي مجمع أن لا يذكر الا بجميل القولِ ولا ينسبُ إليه إلا أحسن الفعِال. وكلما تساءل المتسائلون عن ذلك ذكروا حفظه القرآن ودوام ترديده له وكأنه معجونٌ بطينته وذكروا ملازمته العبادة وتتبع مواسم الخيرات ومتابعة الحج والعمرة وإتباع الطاعة بالطاعة وتبينَّوا من ورعه وتقواه. ولا شك أن التقوى هي زمام الأعمال الصالحة وهي إمام للأفعال الرابحة.
اتقَّ الله فتقوى الله ما
لازمت قلب امرئً إلا وصل
فلا غرابة إن خُلَّدت في صحائف القلوب أنواره، ودوَّنت في ضمائر النفوس آثاره، وكُتبت على أحداق العيون أخباره.
فحريَّ بأهل العلم وروَّاد الفضل أن ينظروا في شريف تلك الخصال. وجليل تلك الفعال، فيتضافروا على طلبها ويستنوا بسنتها ليرقوا برُقّيها وعندها تكثر النماذج الصالحة في مجتمعنا بما يزكو به وتتواتر أفضاله فيعيش بسلامة وصفاء وطهر ونقاء فرحم الله شيخنا الجليل وأوسع نزله في قبره وبلّغه الفردوس الأعلى من جنته، وأصلح عقبه وبارك فيهم.
أضحى لنا بدلاً منه بنوه به
والشَّبلُ من ليثه إنْ مَا مضى بدل
ربَّ استجب دعاءنا، واجبر مصيبتنا واغفر زلتنا، ولا تفتنا بعده، ولا تحرمنا أجره، واغفر اللهم لنا وله.. إن ربي سميع الدعاء.