الحمد لله حمد المحتسبين الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا{إنالله وإنا إليه راجعون}.الحمد لله على قضائه وقدره.
لقد أمسكت القلم بعد تردد وحيرة فيما أكتب عن سيرة ومسيرة والدنا الشيخ إبراهيم الراشد الحديثي رحمه الله الذي انتقل إلى رحمة الله مساء الجمعة الموافق 17/11/1424ه لم أكن مؤرخاً لأسجل وقائع ومواقف وقصصاً من تاريخ حياته المليء بهذه المواقف النموذجية وتلك القصص التي يتناقلها معاصروه ومرافقوه.
ولم يحصل أن كنت طرفاً في قضية رفعت إلى فضيلته فتولى نظرها ضمن سجل حياته الطويل في القضاء.
هذا السجل الذي شهد لفضيلته بسيرة علمية وقضائية نزيهة امتدت أكثر من نصف قرن. ولم أكن من سكان منطقة عسير لأشهد مجلسه اليومي في منزله الذي يتوارد عليه كل يوم أعداد من فئات مجتمع المنطقة ووجهائها.
ولم يحصل أن كنت موظفاً في محكمة أو جمعية أو مؤسسة خيرية قام برئاستها لأنقل صورة ناصعة من حسن العمل والتعامل.
لقد عاصرت الثلث الأخير من حياة فضيلته كواحد من أبناء أحد أشقائه وكنت منذ صغر سني أرقب ما يحظى به فضيلته من مكانة تحاط باحترام وتقدير الجميع حيث كان إذا قدم زائراً لعائلته ومحبيه في منطقة القصيم وفي مدينة البكيرية تحديداً يستبشر الناس بقدومه وربما خرجوا لاستقباله خارج عمران البلد، إذ كان شقيقه سليمان - رحمه الله- كثيراً مايخرج لاستقباله في مدينة عنيزة أو الرس ثم يحاط بعد قدومه بحفاوة مشهودة وتظل زيارته والمناسبات التي تقام احتفاء به محلاً لحديث عموم الناس واهتمامهم.
ولم أكن أعرف السر في هذا الاهتمام وهذه الحفاوة المتميزة لصغر سني وعدم إدراكي لمقامات الناس ومكانتهم من ناحية وعدم معرفي من ناحية أخرى بخفايا وتفاصيل الغرض من هذه الزيارة المتكررة كل عام تقريباً.
لقد تبين لي فيما بعد أن الرجل كان حريصاً على التواصل مع إخوانه وعائلته ومحبيه ضمن برنامج عمل سنوي مدروس يبدأ يوم يشد فيه رحله. يتضمن هذا البرنامج إضافة إلى صلة الرحم والبر بذوي القربى لقاءات متعددة مع القضاة وطلبة العلم داخل المنطقة وخارجها إذ كان يحرص على زيارة المشائخ وطلبة العلم في المدن والقرى التي يمر بها في طريقة إلى البكيرية فإذا وصل وجد برنامج الزيارة قد تم إعداده مجدولاً على غرار الزيارات السابقة كل عام وكان الناس يتزاحمون على الظفر بفرصة من وقت الزيارة للاحتفاء به وإكرامه وكان المشائخ ورجال التربية والتعليم في المنطقة أكثر إصراراً على مثل هذه الفرصة إكراماً له وتقديراً لمكانته وسبقه في السعي لافتتاح أول مدرسة ابتدائية هناك.
قلت: كنت في تلك المرحلة مع كثرة حضوري لتلك المناسبات وكثرة جلوسي مع العائلة بحضرته أتأمل في شخصية هذا الرجل الذي أحب الجميع وأحبه الجميع. كان متواضعاً ومتبسطاً في مجلسه ومع مجالسيه إذا تحدث شد الحاضرين بحسن حديثه عبارة وموضوعاً وإذا سكت استمع باهتمام إلى المتحدث مهما كانت منزلته وسنه، كان يحترم عقول مجالسيه ويتفهم قدراتهم ومداركهم يتبادل الحيث معهم ويتفاعل مع الحديث بحماس المتحدث، مع التذكير والتوجيه الأبوي الرحيم كان حديثه ولسانه رطباً بذكر الله، إذا سكت المجلس أحياه بذكر الله وإذا خاض المجلس بأحاديث قليلة بفائدة عاد به إلى المفيد إما بإطلاق قاعدة شرعية أو حكمة أو أثر أو قصة ذات صلة الموضوع، كنا نتعلم من مجلسه كل شيء نتعلم أدب المجلس وأدب الحديث بل آداب الأكل والشرب والجلوس والقيام.
وقد استمرت سيرته مدرسة متنقلة ومنهلاً لأبنائه وأقاربه ومجالسيه والعاملين معه ومراجعيه وكان يخص طلاب العلم من عائلته بمزيد اهتمام وكنت ممن حظى باهتمام مميز من فضيلته إذ كثيراً ما يجلسني بجانبه يتحدث معي حديث الوالد لولده والمعلم لتلميذه. يطرح مسائل علمية ويثير نوازل فقهية يسأل عن المشائخ وأحوالهم والقضاة وشؤونهم ويذكر القضاء وسير القضاة وبعضاً من نوادر تجاربه وسوابقه القضائية في فض النزاعات وإنهاء الخصومات، كان نموذجاً في تطبيق مبدأ حياد واستقلال القضاء فبقى محل احترام الكافة - عامة وخاصة. لمست جانباً من ذلك بصورة مباشرة خلال عملي في الشؤون القضائية بوزارة العدل.
حدثني خلفه في رئاسة محاكم منطقة عسير قائلاً: إنني طيلة عملي في المنطقة لم أسمع عن فضيلته إلا الذكر الحسن والدعاء له من كل مراجع أقابله يذكره فيذكره بخير ويدعو له على ما هو متقرر من:
ان نصف الناس أعداء لمن
ولي الأحكام هذا إن عدل
الحديث عن سيرة فضيلته لا ينتهي ووقت القارئ لا يتسع لمزيد من التفاصيل وحسبي أن كل من عرفه عن قرب يدرك أن ما ذكرته قليل في سجل حياته المليء بخلق السلف واستقامة الخلف. رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في دار كرامته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
|