أن نقبل القتل العشوائي، أو قتل الغيلة، أو الإفساد في الأرض الذي يمارسه أحداث ملئت أفكارهم بتأويلات محرفة، زينت لهم سوء الأعمال، فتلك خيانة عظمى، وأن نعذِّر أو نجادل عن المختانين أنفسهم، الموردين البلاد موارد الهلكة، عبر أي قضية فكرية أو دينية أو سياسية، فذلك النقض للميثاق، وأن نوفض إلى نصب التطرف والغلو والتكفير، فذلك الجهل بوسطية الإسلام وتسامحه وجنوحه إلى السلام والتيسير. وألا نمقت من مقته الله، وألا نكفر من كفره الله بنص قطعي الدلالة والثبوت، فتلك المداهنة والركون إلى الذين ظلموا. وأن نذعن للمهرتهنين في شرَك الغرب، المرتمين في أحضانه، المروجين لآرائه ومعتقداته وتصوراته للإنسان والكون والحياة، فذلك النكوص على الأعقاب. وأن نخنع للاستغلال العاطفي من خلال الخطابات الطوباوية أو العنترية، فذلك التغفيل المعتق والتخلف المشين. كل ذلك سيئ وممقوت عند مختلف الفئات، ولا يقبل بشيء منه إلا الذين هم أراذل القوم، وما أكثرهم في مشاهدنا العربية. وتلك المقترفات لا يشرعن لها نص، ولا يبررها عقل، ولا تشفع لها مقاصد إسلامية، ولا تحفل بها أي حضارة انسانية، تتوخى العدل والإحسان، ويتناهى ذووها عن الفحشاء والمنكر.
وما اقْتُرِفَ من أعمال ارهابية في الغرب العلماني، أو في الشرق الإسلامي تحت أي مبرر، وما تداولته الخطابات الرعناء من تهييج للمشاعر، وما حفزت إليه من عداوات، وما دعت إليه من فرقة، كل ذلك أيقظ فتناً نائمة، وسنَّ في السياسة العالمية سنناً سيئة، أهون ما تمخضت عنه التدخل العسكري، أو المحاصرة الاقتصادية، أو النفي من المحافل الدولية، كما أدى ذلك أو بعضه إلى خسارة فادحة، عانى منها دعاة السلام وحملة مشاعل الدعوة، تمثلت في تضييق الخناق على الجاليات الإسلامية، وحرمان الأقليات المسلمة من حقوقها، وتعطيل شعيرة من شعائر الإسلام، وهي الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وغُلَّتْ بسبب جنايات المتطرفين وتجاوزات المتأولين أيدي المحسنين، وشلت حركات الجمعيات الإنسانية، وحشر المحسن مع المسيء، وأخذ البريء بالمتهم، ودعك مما أصاب الآمنين من دخن الفتن التي تموج كقطع الليل المظلم، والتي أصبح معها البريء خائفاً يترقب، فلا يساعد بمال، ولا ينصر بكلمة، ولا يغير منكراً لا بيد ولا بلسان، فما أصاب مَن حوله ليس بمستبعد أن يمسه، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وما ذلك إلا بسبب المفاهيم الخاطئة، والتضليل المتعمد، والاهتياجات الطائشة، التي لم تحسب للعواقب أدنى حساب.
وبقدر عنف المواجهة ورعونتها يأتي خنوع المواطأة والممالأة متفسحاً للمعتدين على حقوق الشعوب في المجالس، ليمكن لهم في الأرض والأفكار والرقاب، وتلك مقترفات مارسها العملاء والمتسغربون والمتعلمنون والوقحون من الحداثويين الذين يستفزون الرأي العام بتجاوزاتهم الفكرية والأخلاقية، والعنف والمواطأة والاستفزاز عرَّضت الأمة العربية لتدخلات قسرية، وحروب استباقية، تجاوزت مناورات الاحتواء، وحفزت على ردود الأفعال الانتحارية.
وما تلك الممارسات العنيفة، وردودها الأعنف، وتهافت الانتهازيين على بؤر التوتر، وصلف الخطاب الثوري، إلا نتائج مطابخ سياسية، وافقت جهلاً مضاعفاً: جهل الذات وجهل الآخر، واستعداداً وقابلية لتنفيذ اللعب واستدراج اللاعبين الأغبياء، حتى لقد جلبت تلك التناقضات على الأمة الإسلامية مشاكل مستعصية، فرقت كلمتهم، وأوغرت صدورهم، وهذا الوضع غير السوي ينذر بشؤم، يذكرنا بما تعرض له «الفردوس المفقود»، ويلوح باحتمال خروج العرب من التاريخ. وهل بقيت دولة عربية لم تنكب في أمنها، أو في وحدتها، أو في عقيدتها، أو في أخلاقياتها: السلوكية والتعاملية، أو في تزييف وعي أبنائها؟ ومقت المتطرفين الذين بعثوا الرعب في النفوس لا يمنع من مقت طوائف أخرى أشاعت الذل والخنوع، وتعمدت الإيغال في المسكوت عنه من قيم أخلاقية، وتشايلت مع المنظمات الغربية التي جعلت من نفسها وصياً على العالم كمنظمة «إيباك» فكان أن تعددت ردود الأفعال، ومن ذا الذي يرضى أن يستمع إلى توصيات صهيونية لرسم مناهج التعليم عندنا كما جاءت من «إيباك»، ثم يعرف من لحن القول من يعيد هذا القول بأسلوب استعدائي، وليست هذه الطوائف بما هي عليه من مداهنة ومواطأة، وتكسير للثوابت، وتمييع لكل شيء بأحسن حالاً من القتلة باسم الدين.
وكأني بالإسلام اليوم ك«علي بن أبي طالب» - رضي الله عنه، أحبه قوم فعبدوه، وكرهه آخرون فقتلوه، فضاع بين محب جاهل، ومبغض مغرض.
لقد أتي الإسلام من طوائف متناقضة في مفاهيمها وفي انتماءاتها: من غلاة متطرفين تكفيريين، ومن طائفيين محتقنين متعصبين، ومن مستغربين ممسوخين، ومن تمييعيين باسم التنويع والتعددية، ومن حداثويين محرضين على الفتنة، وحُفَّت تلك الفئات بنظام عالمي جديد يمارس الوصاية والتطويع القسري في اطار من البوليسية، ومراقبة الأنفاس، والمحاسبة على النوايا، والمعاقبة بالذخيرة الحية، وما من مسدد مقتدر جمع الرايات في راية واحدة وابتدر الراية المتعفرة بالتراب، كما ابتدرها سيف الله «خالد بن الوليد» - رضي الله عنه - عندما استحرّ القتل بالمسلمين وانكشفوا للعدو.
وإذ لم تُسعد حال الأمة بعدة أو بعتاد، فلا أقل من التقدير والتدبير والجنوح إلى الكلم الطيب والقول السديد، والاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، والأخذ بالرفق والتعاذر والتعايش، واتفاق قادة الفكر وحملة الكلمة على أدنى حد من المفاهيم الأساسية، ليخلِّصوا البلاد والعباد من محرضات الفتن، ويقوهم من التشرذم.
لقد عايشت الأمة العربية في راهنها الثوري خطابات في منتهى التناحر والتناقض: خطاب اللعن المطلق، وخطاب التزكية المطلقة، وخطاب التعنتر الأعزل، وخطاب التمرد الفكري والأخلاقي، تحت مسميات مغرية، كالقول بحرية التعبير وحرية الرأي. فاللاعن منابذ للعدو دون إعداد لقوة أو استعداد لمواجهة، والمزكي مشرعن للتعدي، والمتعنتر متعرض للقمع المذل، والمتحلل من القيم والضوابط الأخلاقية والفكرية مستفز للرأي العام، وبين هؤلاء وأولئك ضاعت قيم الأمة، وذهبت ريحها.
وأضعفُ الإيمان تلافي الخلاف حول طائفة من المفاهيم: مفهوم الغزو والتآمر، والولاء والبراء، والحوار والصدام والمصالحة والتنازع والدعوة والجهاد، والقبول المطلق أو الرفض المطلق، وحرية التعبير والرأي، والفعل دون ضابط أو بكل الضوابط، وتحديد الثوابت والمتغيرات، والتعلمن والتعولم، والحداثي والحداثوي، والإسلامي والإسلاموي، وسد الذرائع ودرء المفاسد، والعزائم والرخص. إذ كل طائفة تماري بفهمها، وتستقل بمعاييرها، وتتصرف غير عابئة بالمستهمين معها في السفينة.
ولن يستقيم أمر الأمة إلا بتقارب المفاهيم، ووحدة الضوابط والمعايير، والرد الطوعي للمرجعية، ذلك أن الاختلاف الذي لا تكون له مرجعية، ولا تحكمه قواعد وأصول وضوابط ومعايير خلاف فوضوي، يمعن في الفرقة، ويعمق الخلاف. وإذا كان ذوو البصائر والأبصار يعيشون حالة مؤلمة من القلق تحسباً لردود الأفعال العنيفة، التي تمس الثوابت والمثمنات، فإن المتطرفين من كل الأطراف يلعبون بمصائرها، ويعرضون أمنها واستقرارها ووحدتها للانهيار، ويدفعون بها إلى الفراغ الدستوري، تحت مسميات براقة، ومطالب طوباوية، وجلب غير متزن لمنتجات الغرب المبدئية والإجرائية.
وكيف يتأتى الاطمئنان، وأنحاء من بلاد المسلمين يعصف بها الاحتلال العسكري، الذي يقتل أبناءهم، ويؤذي نساءهم، ويفرق كلمتهم، ويستعدي بعضهم على بعض، فيما يطول التهديد والوعيد بلاداً أخرى. وحماة الحرية والعدل العالمي يظاهرون مغتصباً يعيث بمقدسات المسلمين الفساد، ويكيلون بأكثر من مكيال. ومصلحة المحتل - أي محتل - لا تتحقق متى كانت الأمة تعيش حياة سوية، آخذة نصيبها من كل مقومات الحياة السوية. والمؤكد أن كل مصلحي لا يؤمن بالحق الإنساني، لا يعنيه تفكك البلد الواحد، وتحوله إلى دويلات تعتمد الطائفية أو القومية، ليسهل على الخصوم تخويف الأطراف من بعضها، وتحريض بعضها على بعض، ليضطر أطرافها إلى الاستعانة بالعدو بثمن باهظ التكاليف. ومصالح المحتل لا تقيم وزناً لعقيدة الأمة، ولا لوحدة الصف والهدف والكلمة والأقاليم والطوائف والقوميات، ولو تركوا وشأنهم لاستقاموا على الطريقة.
ومع هذه الحقائق التي لا تحتمل التأويل ويشهدون لهم بما لم يعلموا، وكم هو الفرق بين «الاتقاء» و«المداهنة» وإعطاء الدنية وتبادل المصالح. والمشهد العربي موبوء بكل الأطراف المتطرفة. تطرف في الدين، وتطرف في التحلل من ضوابطه، وتطرف في قبول الآخر، وتطرف في رفضه على أي شكل، تطرف في فهم حرية التعبير والرأي، وتطرف في التقييد ومصادرة الحقوق، وتطرف في الإطلاق والفوضوية. وهكذا ضاعت مقومات الحياة الكريمة بين التطرف والتطرف المضاد. وإذا قيل لطائفة منهم: إنكم تمارسون تطرفاً لا يقل خطورة عن تطرف الغلاة في الدين، قالوا: نحن طلاب «الديمقراطية» والحرية والمؤسسات الدستورية، وطلاب حضارة بلغت السماء بأمجادها. وكأن العدل والحرية والعلم والحضارة والمدنية لا يملكها إلا الغرب، ولا يمنحها إلا الغرب، ولا يحميها إلا الغرب. وفات أولئك أن أساطين السياسة الغربية، لا يطمئنون على مصالحهم إلا في ظل التخلف والفقر والتناحر، وخوف الحاكم من شعبه، وكره الشعب لحاكمه.
والمؤلم أن أكبر الخطايا ينهض بها مفكرون وساسة وإعلاميون وأدباء ومتعالمون، وتشيعها مؤسسات فكرية مدعومة ك«مؤسسة ابن خلدون» على سبيل المثال لا الحصر، لقد حرَّضت على الفتنة بين طوائف الشعب الواحد، وشككت في الثوابت العقدية التي أنكرها أعداء الإسلام، وأثارت الجدل من جديد حول إنكار «أمية الرسول» و«الإسراء والمعراج» و«استقبال بيت المقدس»، وهي قضايا قال بها مستشرقون متصهينون، وليس في اثارة مثلها أي مصلحة، فلماذا أثيرت في هذا الوقت المأزوم، أليس في ذلك دليل على أن الأمة مسكونة بأعدائها من أبنائها؟؟
وحين أطرت تلك المؤسسة على الحق ثارت ثائرة الممولين لها، ممن يسعون في الأرض فساداً، محيلين تدخلهم إلى حرية الفكر وحقوق الإنسان، وآزر ذلك أوباش من دعاة الفوضوية وعشاق الأضواء وروبيضات الأمة وحثالات المجتمع العربي. وشقاء العقلاء من «مستغرب» يذوب في الآخر، و«متطرف» باسم الدين يقتل أهله وعشيرته، و«حداثوي» يفسد الأخلاق ويضلل الأفكار، و«مستشرق» يمتص نسغ الحضارات ليذيبها في كيان حضارته، مفسداً للآخر مشككاً من ثوابته، فهلا استبطن «المستغرب» هماً لانتمائه، مثلما استبطن المستشرق، وهلا فكر «الحداثوي» بما يأتي من سيء الأقوال والأفعال؟؟
|