يحكم جميع النظريات عند شعوب العالم قديماً وحديثاً المفهوم التقليدي، سواء كانت هذه النظريات إدارية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، أو غيرها وضعها المفكرون كتصور عام ثم تركوها للزمان ليدخل تعديلاته عليها حتى تكون صالحة للتطبيق، طبعاً حسب العوامل المؤثرة في مجريات الأماكن والأزمان، لكن النظرية اليابانية أو ما يسمى «باليابانزم» قد شذت عن هذا المفهوم التقليدي للنظريات، حيث طبقت مبادئها بدقة رغم أنها لم تنظر حتى يومنا هذا، واليابانزم هو نظام عام متكامل انفرد به اليابانيون دون غيرهم، حيث تمتد جذور هذا النظام في أعماق التراث الحضاري الياباني، ويكتسب سماته من تمازج المقدرات المادية بالثوابت الفكرية لتحدد أبعاد الشخصية اليابانية التي نراها ويراها العالم اليوم في صور مناهج خاصة للحياة وأنماط مثلى للسلوك. على الرغم مما تعرضت له اليابان من اسوأ هزيمة عسكرية في التاريخ الحديث، فلم يستسلم هذا الشعب للبكاء على اطلال الخراب والدمار الذي خلفته الحرب، بل تجاوز ذلك بجهود أبنائه وحبهم لوطنهم لكيلا يجعل الحاضر ساحة يحاكم فيها الماضي الأمر الذي سيفقده الحاضر والمستقبل، بل استطاع في فترة زمنية محددة بدأت عام 1945م أي بعد الحرب العالمية الثانية تحقيق ما عجز عنه الكثير من الأمم في مئات السنين. ذلك ان هذا النظام اعتمد على جذور فكرية قومية، فقام ليستثمر في الفرد الياباني وعماده في ذلك ثلاثة محاور رئيسة هي: الأسرة والدين والمعرفة، لهذا قرر هذا النظام ان أهم عنصر من عناصر الإنتاج الثلاثة: هو الإنسان، صانع الإدارة والتنمية صانع التقنية والمعرفة، لهذا وبتركيز كلي اصبح المورد الرئيس هو الإنسان الياباني حتى تحولت المفاهيم لتصبح التنمية في ذاك البلد بالإنسان وللإنسان الياباني. حتى سجلت مراكز الاحصائيات ان أقل نسبة تغيب عن العمل في العالم هي في اليابان حيث بلغت 95 ،1% وفي بلد آخر من بلدان الرفاهية كالسويد سجلت 8 ،13%، مما أجبر رجال الأعمال في اليابان على أن يحرصوا كل الحرص على توسيع حجم التشغيل لإتاحة مزيد من الوظائف وتأمينها أكثر من عنايتهم بتخفيض حجم التشغيل للحصول على الأرباح لان مقر العمل في اليابان هو نوع من المجتمع المترابط المنسجم. لأن أبسط مسلمات العمل والتوظف عندهم سيكون لمدى الحياة، ومن ثم يعتقدون انه ليس بالعقاب يعمل الانسان بل هناك عوامل كثيرة تجعل العامل يؤدي عمله على أحسن وجه، دون اللجوء إلى أساليب الضغط النفسي او التعسف الإداري، ومن تلك العوامل:
- «نظام التوظيف» والذي يعني ان العامل بعد تخرجه في سلك التعليم يلتحق بالوظيفة ويواصل العمل بها حتى سن التقاعد ولا يفصل إلا في حالات محدودة مثل ارتكاب جريمة تمس الشرف والأمانة مثلاً، فهو حينما يعمل في شركة يشعر انه دخل اسرته الثانية، لأنها ستوفر له سبل الرعاية الاجتماعية اللازمة، ليتفرغ كلياً للعطاء وبذل الجهد للشركة، ووفقا لنظام التوظف مدى الحياة يتدرج العامل من أدنى السلم الوظيفي الى أعلاه حاملا معه الخبرات التي يكتسبها باستمرار في جميع المواقع التي ينتقل اليها.
- «نظام الترقية» يرتبط هذا النظام ارتباطا وثيقا بنظام التوظف مدى الحياة، فالاعتبار الأول للترقية مدة الخدمة والسن، فالمدة الاطول والسن الأكبر هما أساس الترقي الى الوظيفة او الدرجة الأعلى وذلك انطلاقا من أن طول المدة يتيح المجال لاكتساب خبرة أكثر ومعرفة متنوعة في مجال العمل، طبعاً مع عدم اغفال مستوى الأداء والمهارة.
- «أسلوب اتخاذ القرار» عملية صنع القرار في اليابان عملية تعاونية مشتركة تقوم على أساس الاتفاق الجماعي حيث تبدأ من القاعدة الى القمة، لأن نظام التوظف المستقر طويل المدى قد أوجد الثقة في الشركة والارتباط القوي بها، ونمّى إحساساً مشتركاً بين الجميع جعل كل فرد يشعر بأن انجازات الإدارة هي جزء من إنجازاته هو شخصياً. وقد ظهر هذا بوضوح عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة - بعد التغيرات التي حدثت في تركيب ملكية الشركة - حيث صارت مصلحة الموظفين لها الأولوية على مصلحة حاملي الأسهم، وجنى الموظفون العاديون ثمار نجاح الإدارة بتخصيص جزء من الأرباح لهم، فقد أدى جمع مصلحة الموظفين والشركة معا الى وحدة المصلحة، ومن ثم الى الاحساس بالمشاركة والانتماء لدى الموظفين.
إن كثيراً من التنظيمات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء عرضة للفشل، ومن ثم انتهاء قيمة هذه التنظيمات، لكن سر بقاء واستمرار نظرية .. «اليابانزم» هو أنه نظام لم ينعزل عن التراث او الثقافة العامة للشعب الياباني، بل هو نظام مرتبط بالعادات والتقاليد اليابانية ومن ثم استطاع هذا النظام ان يصوغ لشعبه مسلمات ونظريات عرفية لم تنظر ولم تؤطر على الحبر والورق بل اشربت في العقول وتوارثتها الاجيال حتى وصل اليابانيون الى قناعة تامة بضرورة توجيه كل الجهود التنموية لتطوير الإنسان الياباني - من دون الشعور بالذي ينتاب رجال الأعمال عندنا من الخوف لترك العمل، او كما يحدث في الغرب- وعلى الاخص في الولايات المتحدة الأمريكية - حيث نجد الصراع قائم بين الإدارة والعمال - لسبب بسيط ان اليابانيين آمنوا ان استغلال العنصر البشري ونظام التوظف مدى الحياة هما محور التنمية والتطوير وركيزته الأساسية، لذلك اغلب الجهود التنموية توجه نحو التدريب والتعليم، وبما ان قابلية انتقال العمالة بطيئة بين الشركات فإن الموارد البشرية لابد ان تنمو وتتطور داخل الشركة نفسها، ويصبح نظام التوظف مدى الحياة مقدمة منطقية للنظرية «اليابانزم».
|