بزيارة الأمير عبدالله لموسكو (2-4 سبتمبر 2003م)، دخلت العلاقات السعودية الروسية مرحلة جديدة، وأحدثت نقلة نوعية واستراتيجية في علاقات البلدين، حيث كانت الزيارة بحجم المرحلة، وبحجم توقعات المراقبين، وبحجم طموحات واحتياجات البلدين.
وقد كان جدول الزيارة مليئاً ومزحوماً بدرجة كبيرة في محاولة لاستباق الزمن الفائت الذي تجاوز ثلاثة وخمسين عاماً من القطيعة والتنافر، وأيضا محاولة لترميم مرحلة فتور تجاوزت اثنتي عشرة سنة أعقبت استئناف العلاقات الدبلوماسية.
وبين ذلك الزمن الفائت، وهذه المرحلة من الفتور تراكمت بين البلديدن العديد من الملفات (السياسية - والاقتصادية - والأمنية - والثقافية - والعلمية)، لذا حضرت هذه الاهتمامات مجتمعة وبقوة في برنامج زيارة ولي العهد.
ولم يكن الملف الشيشاني بعيداً عن أجواء الزيارة وتفاعلاتها، وذلك لاعتبارات، منها:
1- الاهتمام السعودي بالشأن الإسلامي ورعايتها لمصالح المسلمين، ومنهم الشيشان، وظهر هذا طوال مسيرة الحرب الشيشانية الروسية الأولى (94-96)، والثانية القائمة حالياً.
2- الوعي والإدراك الروسي الرسمي لطبيعة الموقف السعودي الرسمي تجاه الشيشان، والذي يلخصه الروس في:
- دعم إغاثي وإنساني واسع للاجئين الشيشان بالتنسيق مع الجانب الروسي (ممثلا بوزارة الطوارئ)، وذلك في مناطق اللاجئين في أنقوشيا، وداغستان، وفلادي تفقاس.
- التأكيد على منح الشيشانيين حقوقهم في ظل وحدة أراضي روسيا الاتحادية، على غرار بقية القوميات المسلمة في روسيا كالتتر والأنقوش والداغستان والبشكير وغيرهم.
وقد توج الاهتمام السعودي بالشأن الشيشاني بلقاء الأمير عبدالله، بأحمد قادروف بصفته آنذاك مدير الإدارة المدنية للشيشان قبل الانتخابات الرئاسية الشيشانية، وحينها جاءت دعوة سمو ولي العهد له لزيارة المملكة.
* وتتأكد أهمية زيارة الرئيس الشيشاني/ أحمد قادروف للمملكة باعتبارها خطوة جادة وعملية في مسيرة العلاقات السعودية الروسية وهذا عائد لأسباب:
- أولا : شخص قادروف ذاته، الذي عايش قضية الشيشان منذ بدايتها عام (91م)، تحت قيادة الجنرال/ جوهر دودايف، وراقب تفاعلاتها السياسية والعسكرية، ونتائج ذلك على الواقع الشيشاني، وأثره في مستقبلها المليء بتبعات الحرب ومخلفاتها الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، فقادروف ليس قريباً من الأحداث الشيشانية بل ملامس لها ومعايش لتفاصيلها وهو من أكثر الناس إدراكاً للأجواء المحيطة بقضيتهم، ولعله الآن الأقرب لإدراك مصالحها وأسباب اخراجها من أزمتها، ولديه مفاتيح عملية لتحقيق ذلك ومن أهمها أنه شيشاني قادم من داخل الشيشان لقيادة بلده، وليس شيشانياً عاش حياة بعيدة عن معاناة أبناء جلدته.
ثانياً: إجماع المراقبين والسياسيين والإعلاميين في الساحة الروسية بأن القضية الشيشانية من أشد العوامل المؤثرة سلباً في واقع العلاقات السعودية الروسية، وأنها ستظل حاضرة لاعتبار المشاعر المتناقضة المحيطة بها، وأنه لا سبيل غير ايجاد حل لهذه الأزمة لتحقيق مصالح عدة (سعودية - روسية - شيشانية)، فبالرغم من القناعات الروسية الرسمية تجاه المملكة وموقفها من القضية، إلا أن الإعلام الروسي سيظل مصراً على إبراز ذلك سلبياً ولو بدرجة أقل من السابق.
ثالثاً: الرغبة السعودية الروسية المشتركة لتجاوز ملف الشيشان في مسيرة علاقات البلدين، بهدف الانشغال بملفات عمل أخرى تتطلبها المرحلة الدولية الراهنة في المسارات السياسية الدولية، والاقتصاد العالمي وخاصة الاستثمارات النفطية، ثم الملف الأمني لمواجهة الإرهاب الدولي وقضاياه المتشعبة.
إن تجاوز القضية الشيشانية - وليس تهميشها - في هذه المرحلة أمر ممكن يدعمه التحول الكبير في قناعات الشعب الشيشاني في جدوى الحرب والنتائج التي يعلقون الآمال عليها، فأغلبية الشعب يعيش لائجاً منذ سنوات طويلة ولم ير أي تقدم في مسيرة قضيته، بل ازداد الشعور بخيبة الأمل في ظل الفوضى العارمة، وانهيار الاقتصاد، وتعطل عجلة التعليم والتنمية، وتوقف مظاهر الحياة المدنية، فبدأ الشعب بقناعات جديدة تجاوزت مرحلة الاندفاع السابق، للبحث عن حياة كريمة بعيدة عن العيش في المخيمات ومجمعات اللاجئين، ولا شك أن أمامهم لتحقيق ذلك مصاعب كثيرة ولكنها ليست مستحيلة وبالامكان تجاوزها إذا تضافرت الجهود.
* ولعل زيارة الرئيس قادروف الحالية تحمل برنامجاً عملياً طموحاً، يمكن قراءته في النقاط التالية:
1- العمل على الحصول على دعم سعودي سياسي في التوجه الجديد تجاه القضية الشيشانية، في ظل الرئاسة الجديدة للشيشان بقيادة قادروف، سعياً للخروج بالقضية من دوامة الحرب، وهذا في تقديري متحقق منذ زيارة سمو ولي العهد لموسكو ولقائه بالرئيس بوتين، فلم تكن القضية آنذاك بعيدة عن أجواء المحادثات.
2- الحصول على دعم سعودي مادي لإعادة إعمار الشيشان سعياً لنقل الاهتمامات الشيشانية من أجواء الحرب وتبعاتها إلى اعادة الإعمار وبناء الدولة من جديد، والمملكة سبّاقة في هذا الميدان إذا رأت الجدية في التوجه ومناسبة الظروف وتحقق المصلحة، وقد يكون هنا دور فاعل أيضا للبنك الإسلامي للتنمية، ولكن تقرير ذلك عائد عملياً للشعب الشيشاني ذاته في اتجاهه نحو تحقيق حياة مدنية هادئة.
3- محاولة إقناع المستثمرين ورجال الأعمال السعوديين بالفرص الاستثمارية المتاحة، ولا سيما أن الوفد يضم رجال أعمال (عمر جبرائيلوف - اسلان بيك) وهذا المحور في تقديري لا يعول عليه كثيراً، فالمال جبان والأجواء الشيشانية ما زالت غير مستقرة بدرجة تسمح للمستثمرين الزج برؤوس أموالهم ولا سيما مع فقدان الكثير من التنظيمات والاجراءات الضرورية للاستثمار، بل إن تجربة الاستثمار السعودي في روسيا لا تزال في بداياتها الأولية وينقصها الكثير من الخبرة والدراية الخاصة بشؤون وظروف المنطقة وسيكون من الصعوبة التوجه مباشرة إلى الاستثمار في الساحة الشيشانية.
4- المجال الصحي والإسعافي العاجل من أوسع المجالات حالياً وأشدها حاجة في مجال المساعدة للجانب الشيشاني، وخاصة إذا سعى الرئيس قادروف مع المعنيين بهذا الشأن في المملكة إلى إقناعهم بنقل نشاطهم ومساعداتهم إلى داخل الشيشان بهدف تدعيم تحول الشيشانيين وانتقالهم من مخيمات ومواقع اللاجئين إلى داخل الشيشان، مما قد يسهم عملياً في إقرار الحياة المدنية ونقل الذهن الشيشاني من التفكير في الحرب إلى اعادة البناء.
* من هنا: تبرز أهمية زيارة قادروف للمملكة؛ أهميتها على المستوى الشيشاني، وانعكاسها إيجابياً على العلاقات السعودية الروسية بمجملها، ولكن الجدير بالعناية هنا أن يتحول الرئيس قادروف عن قناعاته ومواقفه السابقة تجاه المملكة والمرتبطة بأجواء عمله السابق مفتياً للشيشان وما صاحبها من ظروف وملابسات، إلى مرحلة جديدة تتواكب مع متطلبات المرحلة الحالية في ضوء تفكير سياسي يصب في مصلحة الشعب الشيشاني، ويهدف إلى بناء علاقات جادة وايجابية مع المملكة، يدعمها التوجه الروسي الجديد تجاه العالم الإسلامي بعامة والمملكة على وجه الخصوص باعتبارها شريكاً سياسياً واقتصادياً، ولا سيما أن المرحلة تحتاج إلى مزيد من التنسيق والتفاهم والتعاون في ضوء رؤى استراتيجية تحقق المصالح المشتركة لمختلف الأطراف.
وسيظل المستقبل مشرقاً ما دامت رؤانا مشرقة ومتفائلة وصادقة في جهودها وتوجهاتها، ومراعية بأهدافها ومتطلباتها.
فاكس : 4805154 |