تتميز سمات اجتماعية فكرية وسلوكية في المجتمع الإنساني قاطبة بأن الفصل بين الحَسَن منها وغير الحَسَن إنما يكون بمقدار شعرة، أو هو باعتبار زاوية رؤية. وذلك بحسب أجناس الناس وأحوالهم وعلاقتهم بالزمان والمكان وما ينتج عنهما من فكر اجتماعي. ويزداد الأمر تعقيداً إذا ما ارتبط بأسس عقدية دينية الأصل فيها السيادة والهيمنة على فكر الإنسان وسلوكه. ذلك أن الأمر لم يعد ذوقا مما يتذوقه الناس، ولا مجالا للاجتهاد البشري الكامل فيه. ومن هنا، يؤتى الناس من حيث يعلمون أو لا يعلمون. فبقدر ما ترغب المجتمعات المتدينة إضفاء صفة التدين على مظاهر الحياة فيها، يصعب عليها فتح مجالات حرة لمناقشة ما يعتقد بعض الناس أنه ذو علاقة مباشرة بالأحكام الدينية. ومن هنا، تبدو مناقشة بعض الأمور محل تهمة عنيفة مفادها نزعة تحررية وتمرد على ما استقر من أعراف دينية لايليق المساس بها، وينقسم الناس إلى محافظ ومتمرد ويتكون من هذه البيئة ميدان رحب لتراشق التهم والمسؤوليات فيما تؤول إليه أحوال الناس.
وبإجراء نظرة سريعة على واقع مجتمعنا السعودي نكاد نوقن ان أمورا قد استقرت النظرة إليها لدى عدد من الناس باعتبارها مسلّمات لايصح المساس بها ولا حتى إعادة النظر فيها وتقويمها. ومن هذه الأمور ما يمكن تصنيفه ضمن المحركات الأسس للفكر والسلوك المجتمعي. (النصيحة) مثال مهم في هذا المجال. فهي تعد وسيلة من الوسائل النبيلة للضبط الاجتماعي في المجتمع المسلم. وهي هدف وغاية بحد ذاتها، بل ربما أمكن اعتبارها ضمن أهم آليات إشاعة الفضيلة بين الناس. غير أن تميز (النصيحة) بهذه الميزة الكبرى في الفكر المجتمعي عند المسلمين، (استنادا إلى توجيهات نبوية شريفة مباشرة شملت معها النصيحة كل طبقات المجتمع الحاكمة والمحكومة، العالمة والمتعلمة، الفاعلة والعامة)، قد أضفى على ممارستها سمات الوقار والنبل وشيئا من القدسية والسمو الذاتي. ومن هنا، باتت النصيحة مقصد كثير من أهل النصيحة، وأحيانا من المتطفلين على ممارسة النصح ممن ليسوا -بالضرورة- ملاّكا لما يلزم لممارستها من علم ومهنة ومهارة. وبذلك تحولت كيانات مجتمعية كما تحوّل أفراد في مجتمعنا من كونهم مواطنين مماثلين لغيرهم في حقوق المواطنة وواجباتها، إلى أوصياء على الناس يترقبون كل فُرجة وفسحة لممارسة وصايتهم التي يعتقدون أنها نوع من النصح والإرشاد فيما أمر الله به. وتشكلت بذلك ثقافات وحدوية تعتقد ان ما تؤمن به ليس (فهماً خاصاً بها) وليس (رأياً) يمكن ان يوجد رأي أصوب منه، بل حق وفصل ومنهج يجب على الآخرين اتباعه، لأنه عين الصواب. وشاعت بذلك ثقافة الوصاية على الناس، وهي ثقافة لا يمكن ان تصح لسبب ظاهر جداً وهو أن النصيحة فكر متقدم جداً يقوم على النّدّية وعلى الفهم العميق لمضمون النصيحة ومكانها وزمانها وجميع أحوالها، بينما تقوم ثقافة الوصاية على النظرة الفوقية من لدن كيانات وأفراد في مقابل كيانات وأفراد آخرين. ربما أُتينا من جنوح بعض كياناتنا المجتمعية نتيجة شغفها بممارسة شيء من الوصاية على الناس وعلى المجتمع وكأنها المالك الفرد للحق والفضيلة.
* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|