جُبِلَ الإنسانُ على الولع بالمعرفة وحبِّ الحكمة، فالمعرفة قوة جموحة والحكمة لجامها. وفي فضاء الحكمة يمتشج العدم بالميلاد والعلم بالأخلاق، وبها يتسع الأفق المعرفي حاملاً متن التراب إلى سماء النجوم، فتزول أصناف القهر وطغيان القرار وينتصر الحوار. هي الحكمة ضرب من ضروب الفلسفة. والفلسفة بمداها المؤتلق نشأت مع الجماعات البشرية الأولى التي تبصرت أبعاد الكون من حولها والحوادث الجسام والكوارث المستطيرة، فصاغت تأويلاتها لعالمها المحيط ولما وراء الطبيعة وموقع الإنسان فيهما، فكان في تأويلاتها، على شطط فيها، مُستقراً لأفئدة ران عليها التشتت، ومنهاجاً لعابرين بعثرتهم شعاب المسالك، وحقناً للدماء.
والفلسفة بمبناها الاصطلاحي كلمة يونانية أطلقها فيثاغورس الذي تُدرَّس قوانينه في مناهجنا؛ مؤلفة من مقطعين «فيلين» وتعني أحب و«سوفيا» أي الحكمة، فهي حبُّ الحكمة، ولا مشاحة في المصطلح. وهي تأمل واستطلاع يتمظهران في سعي الفرد إلى سبر غور كل المسائل وصولاً إلى قانونها العام (سلوى بعاصيري). وتعد الفلسفة أصلاً تفرعت منه العلوم، وقد عالجت منذ أيام الإغريق السياسة والأخلاق والعدالة والقانون والحق.. وهي الآن تفرعت في مجالات علمية شتى، كعلوم المعرفة والقيم والمناهج. فإذا كان العلم يروم حقائق الأشياء فالفلسفة تتفحص في شروطها المعرفية وقيمة قوانينها التي تؤدي إلى اكتشافها والأسس المنهجية التي تقوم عليها.
وقد أدرك المسلمون هذه القيمة للفلسفة، فأنشأ الخليفة المأمون دار الحكمة التي توافرت على كمٍّ هائل من ترجمات كافة الحضارات العتيدة، بل وتعددت الترجمات للكتاب الواحد مما يشير إلى الحرص المعرفي والروح النقدية لدى المترجمين، كما يستدل المفكر د. عبدالرحمن بدوي: «العقل العربي كان منفتحاً لكل ألوان الثقافات العالمية.. وكان هذا التفتح الواسع هو العامل الأكبر في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية.. الذي أضاء العالم في العصر الوسيط».
وفي عالم اليوم تصطخب الحياة بفورات بركانية من: ثورة الاتصالات، التقدم الهائل في التقنية الحيوية، تضخم الشركات العالمية، عولمة طالت كل أرجاء البسيطة وأحداث سياسية مرعبة تتلاطم بها منطقتنا العربية. فمن الطبيعي أن البشر الموجسين خيفة يتحصنون خلف تأويلاتهم وقناعاتهم القديمة صحيحها ومعتلها. ومع زيادة حدة الصخب يلجأ أناس إلى بديهياتهم وأنماط تفكيرهم السابقة، وقد يستأنسون بخرافاتهم وإشاعات تدغدغ عواطفهم. هذه المنظومة المعرفية تحتاج للمراجعة. فبدون حصافة فكرية وعلمية تلائم وضعنا العربي الإسلامي نغدو أسرى الانفعالات، وبدون تحصين منهجي فلسفي يؤطر فكرنا ومصالحنا تلتبس معاييرنا في الموازنات العقلانية بالساحة الفكرية العالمية، فلا نفهم العالم الآخر ولا يفهمنا، ويختل الميزان بين منافعنا وقناعاتنا، ونكون أول الخاسرين!
وهنا نتساءل، في ظل التحول الهائل والتطور الكبير بكل مناحي الحياة في مجتمعنا السعودي وفي خضم الأحداث الداخلية والعالمية الحادة التي تؤثر فينا بقوة، ألا نحتاج إلى تطوير في طريقة التفكير وفي تفسير الأحداث جديدة التعقيد، توضح لنا موقعنا في العالم وتدعم موقفنا وتصون مصالحنا؟ ألا تتطلب التغييرات الجذرية التي حصلت تغييراً في منهج التفكير وأساليبه؟ وهذه تتطلب مراجعة للمناهج التربوية كمواد دراسية وكنظام تعليمي. ان إحدى الإشكاليات التي نعاني منها في ظل التجاذبات الفكرية المتوترة هو افتقار كثير من فعالياتنا الثقافية للتأمل الذهني والتفكير الفلسفي (التفلسف) وتنظيم الأفكار والحسِّ الحواري أو الجدلي.
فخلف بعض هذه الفعاليات مريدون مجتهدون تأخذهم الحماسة والعفوية في الاندفاع نحو ما تمليه القناعة الفكرية الجاهزة العاطفية والسطحية دون معايرتها أو موازنتها عقلياً. وفي زعمي أن ذلك مرده ظروف عديدة أحدها، ولو جزئياً، وهو، ضعف التأطير الفلسفي والتأسيس المعرفي في ثقافتنا، ومن ذلك افتقادنا لتدريس مادة في الحكمة أو الفلسفة أو في التفكير المنهجي في مناهجنا التربوية على المستوى الثانوي والجامعي.. صحيح أن بعض أشكال الفلسفة تتخلل بعض المواد الدراسية كالفيزياء والرياضيات والاجتماع والآداب... إلخ، إلا أنها كمنهج معرفي مستقل مفقودة في مناهج الدراسة.
والفلسفة تدرب الطلاب على التفكير المنتظم وتنمي القدرة على التفكير العلمي، إضافة إلى تطوير التفكير المستقل. لذا فإن مادة الفلسفة تعتبر إلزامية في الدول المتقدمة، بل إني قرأت خبراً قبل عدة أشهر عن افتتاح «روضة الأطفال الفلسفية التجريبية» التابعة لمصلحة الطيران المدني في يوننان كأول روضة من نوعها في الصين تهدف إلى تنمية قدرة الأطفال على التفكير العلمي بصورة منتظمة (شبكة الصين China Internet Information).. فبقدر ما أن الإيمان بالقناعات العامة أساسي في فكر الإنسان، وبقدر ما أن العلوم ضرورة رئيسية للتطور، فإن الإطار النظري الفلسفي مهم أيضاً، لأنه يتناول شروط تكوُّن المعرفة وتنظيمها وقيمتها والعمل الإنساني والسلوك الأخلاقي. فالحكمة عبارة عن توفيق العمل بالعلم، فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة... كما قال الرازي.
لم يعد مجتمعنا يتكون من تلك الجماعات البسيطة التي تحكمها أعراف وتقاليد بلدية أو ريفية أو قبلية، نحن إزاء دولة تتطور ومجتمع يتعقد، وتتشابك فيه الأنماط المعيشية والسلوكية والحاجات والأواصر... لم تعد الأحداث العالمية تمر من حولنا لماماً، بل أصبحت تتخللنا ونتفاعل معها تأثراً وتأثيراً.. فهل يمكن استيعاب هذه المتغيرات عبر منهجنا القديم وحده؟ نحن في أمس الحاجة إلى المراجعة الحكيمة.. نحن في حاجة إلى مادة دراسية في الفلسفة تضيء عقول أبنائنا!!
|