كنت أود أن أتحدث عن موضوع آخر هذا اليوم. لكن ما سمعته من عبارات في قنوات عربية متعددة خلال الأيام السابقة دفعني الى الحديث عن موضوع سبق أن تحدثت عنه وهو الانزلاق الاعلامي. في حديثي السابق عن هذاالموضوع أشرت الى ان التاريخ يبين ان ثقافة القوي تفرض نفسها على الضعيف، فيقلده دون تفكير. ولذلك لم يكن غريباً ان وجدت بعض مثل الغرب القوي في الوقت الحاضر وعاداته طريقها الى صميم مجتمعات أمتنا العربية الضعيفة ووسائل ثقافتها، التي من أهمها الاعلام. وأشرت الى بعض مظاهر تقليد اعلامنا المتخلف محتوى ومنهجا وأسلوبا للاعلام الغربي المتقدم في هذه الجوانب دون تحفُّظ أو روّية.
ومن الانزلاق الاعلامي الأعمى تبني ما روَّجه اعلام الغرب ومن ضمنه اعلام الكيان الصهيوني - من تسمية منطقتنا العربية منطقة الشرق الأوسط مع وضوح الدلالة على أن الهدف من هذه التسمية طمس الهوية العربية لها. وهكذا رأينا وكالة أنباء، وقناة تلفازية، وصحيفة يومية تحمل كل منها اسم «الشرق الأوسط». بل ان قضية فلسطين، التي هي قضية أمتنا الأولى لم تعد تسمى إلا قضية الشرق الأوسط في أكثر أجهزة اعلامنا المختلفة.
ومن الانزلاق الاعلامي الأعمى اطلاق تعبير «مشروعات السلام» على مشروعات التسوية التي يراد لها أن تتم بين قوي يفرض شروطه؛ وهو الجانب الصهيوني، وضعيف أصبح يقبل هذه الشروط، أو معظمها، تائهاً وراء سراب بقيعة وكأنه لا يدرك أنه يتعامل مع عدو ليس لديه رغبة في السلام إلا إذا كان له وحده رغم احتلاله الأرض وشنِّه حرب ابادة على أهلها. والأدهى من ذلك ان بعض أجهزة اعلامنا؛ تمشياً مع رؤية مسلوبي الارادة من القادة، ما زالت تصف أمريكا براعية السلام وهي التي تدعم المجرمين من الصهاينة دعماً غير محدود.
ومن الانزلاق الاعلامي الأعمى ترديد بعض أجهزة الاعلام العربية ما يردده الاعلام الأمريكي من ان أمريكا تشن حربا على الارهاب وكأن هذه الدولة المتجبرة لم تقم أساساً على الارهاب، ولم يحفل تاريخها منذ أن قامت بأدلة واضحة كل الوضوح على اتصافها بما تدعي زوراً أنها تحاربه.
بل هبط مستوى بعض أجهزة الاعلام العربي الى درجة التحدُّث عن أمريكا بخاصة وكأنها مخلصة لما تزعم أنها تطبقه من ديمقراطية، وتراعيه من حقوق للانسان مع ان حقائق التاريخ تثبت أنها تآمرت وما زالت تتآمر - على حكومات منتخبة ديمقراطيا؛ مثل حكومة مصدِّق في ايران، وحكومة الليندي في تشيلي. أما مراعاتها لحقوق الانسان فمن آخر الأدلة على كذب زعمها - بهذا الصدد- دعمها لجرائم الصهاينة في فلسطين، وما ارتكبته في أفغانستان، وقاعدة جوانتنامو.
ومن الانزلاق الاعلامي الأعمى ترديد بعض أجهزة الاعلام العربية عبارة «العنف والعنف المضاد» لوصف ما يجري على أرض فلسطين مع أن الواضح كل الوضوح ان هناك ارهاب دولة بجميع الأسلحة الفتاكة يرتكب ضد شعب يقاوم من احتلوا أرضه بايمانه بربه ثم بتصميمه على استعادة حقوقه مهما كلفه ذلك من تضحيات.
بل إن الأجهزة المذكورة تذيع أخبار الجرائم الصهيونية تماما كما يذيعها اعلام العدو دون أي ايحاء بتأثُّر لفواجع الجرائم المرتكبة.
وماذا عن تعامل الاعلام العربي مع قضية العراق؟
لقد حدث ما كان متوقعاً من بعض أجهزة هذا الاعلام من بداية التحضير الأمريكي لاكتساح العراق والاستيلاء عليها الى الوقت الحاضر الذي أعقب ذلك الاكتساح وهذا الاستيلاء. فراحت تردد - بغباء أو بدوافع ذاتية مريضة - ما كان يروَّجه الاعلام الأمريكي المتصهين من أن الهدف من الهجوم على العراق القضاء على أسلحة الدمار الشامل التي كانت قيادة العراق حينذاك تمتلكها؛ تصنيعاً أو شراء. ولم يخطر ببال أرباب هذه الأجهزة المنزلقة وراء إعلام أعداء الأمة التفكير في أن فرق التفتيش الدولية لم تعثر على أسلحة دمار شامل رغم عملها المتواصل.
وعندما هاجمت قوات العدوان الأمريكية العراق والى جانبها قوات بريطانيا، التي سبقت عدوانها للأمة العربية عداوة أمريكا؛ وذلك بكونها الدولة التي غرست شجرة الصهيونية في فلسطين ورعتها حق الرعاية، تحوّل اعلام المعتدين نوعاً ما من وصف العدوان بأنه للقضاء على أسلحة الدمار الشامل الى وصفه بأنه تحرير للشعب العراقي من حكم ظالم ليحلُّ محله حكم ديمقراطي عادل! وما كان هذا الادعاء وذلك الزعم إلا كذباً وزوراً. لكن لم يكن للإعلام العربي المنزلق، أيضا، إلا أن يردد ما كان يردده اعلام المعتدين الأقوياء، من كذب وزور وكأنه صدق وحق.
على أن الأدهى والأمر أنه مع فشل الذين اعتدوا على العراق في العثور على أسلحة دمار شامل سكتت قياداتهم عن استعمال القيادة العراقية لها عندما كانت لديها وكانت مصالحها منسجمة مع مصالح تلك القيادة، ومع اتضاح ان الهدف الحقيقي لعدوانهم لم يكن رأفة بالشعب العراقي أو تحريراً له من ظلم، فإن بعض أجهزة الاعلام العربي ما زالت بعيدة عن تسمية الأمور بما يتفق مع حقيقتها. فبدلاً من تسمية قوات الاحتلال بهذا الاسم المنطبق مع الواقع راحت تردد ما يقوله اعلام المعتدين أنفسهم بتسميتها «قوات التحالف». ومن المعلوم أن تسميتها بالاسم الأخير المخالف للواقع إنما يراد به ابعاد كلمة «الاحتلال» عن آذان المستمعين؛ وذلك لما تعنيه من حدوث عدوان نتج عنه اغتصاب لأراضي المعتدى عليه. ويوضح ما ترتكبه قوات المعتدين المحتلين؛ وبخاصة القوات الأمريكية، من اذلال للعراقيين واقتحام لبيوت بعضهم، وبطش ببعضهم عشوائياً، وما يقوم به المسؤولون منهم في العراق من تصرفات وتحكم مطلق في تسيير أمور النفط هناك، الهدف الحقيقي الذي ارتكب العدوان من أجله.
ولأن بعض أجهزة الاعلام العربي تأبى إلا التبعية لاعلام المعتدين على العراق، الذي هو جزء عزيز من أجزاء الوطن العربي، فإنها مضت تردد مع اعلام أولئك المعتدين؛ واصفة مقاومة العراقيين لقوات الاحتلال المعتدية بأنها من فعل رجال صدام، متجاهلة - بغباء أو بدوافع ذاتية - أن الشعب العراقي مثل كثير من شعوب العالم لا يقبل أن يحتل أرضه أجنبي.
وسيثبت هذا الشعب الأبي - بإذن الله ونصره - أنه قادر على تحرير أرضه ممن اعتدى عليه وعليها.
ولقد اختتمت المقالة، التي سبق أن كتبتها عن الانزلاق الاعلامي، بسؤال أراه ما زال قابلاً للطرح. وهو: هل يستطيع اعلامنا أن يتحرر من ربقة استعمار أعداء أمتنا؟ إن الإجابة عن هذا السؤال واضحة. فالاعلام أداة لا يمكن ان يؤثر فيها إلا فعل عربي جاد على المستويين القيادي والشعبي، وهذا الفعل العربي الجاد لا تبدو في الأفق بوادر لوجوده الآن، ولا احتمال حدوثه في المستقبل القريب. والسبب يكمن فيما أشار اليه الحكيم الخبير {إنَّ اللهّ لا يٍغّيٌَرٍ مّا بٌقّوًمُ حّتَّى" يٍغّيٌَرٍوا مّا بٌأّنفٍسٌهٌمً}.
|