قلّما يمر يوم دون أن تزورني في العيادة مريضة تسألني عن دواء لتفتيح البشرة، أو تستشيرني أخرى حول الأدوية المسببة السمار للجلد tanning أو كما يسمونه (آخذ اللون)...!
ويا سبحان الله هذه تريد تسميراً وتلك تريد تفتيحاً، وبين هذه وتلك يجد الطبيب نفسه منهمكا في إرضاء الاثنتين! يحتوي الجلد على نوع خاص من الخلايا يدعى الخلايا الصباغية، وعددها متقارب عند سائر البشر الأبيض منه والأسمر. ولكن تركيزها في الجلد يختلف من مكان إلى آخر، فهي أعلى ما تكون في الوجه، وتعتبر كل خلية صباغية مصنعاً متكاملاً لإنتاج مادة الميلانين وهو الصباغ الرئيسي المحدد للون الجلد.
ويختلف نشاط الخلايا الصباغية في إنتاج الميلانين من شخص لآخر وهذا النشاط المحدد وراثياً هو المسؤول عن لون الجلد، فكلما كان إنتاج مادة الميلانين أكثر كان الإنسان أكثر سمرة والعكس صحيح.
واضافة لما يؤديه الميلانين من دور في تحديد لون الجلد، فقد وجد له وظائف أخرى هامة جداً حيث أوضحت الدراسات أن نسبة الإصابة بحروق الشمس والتجاعيد الوجهية والسرطانات الجلدية تكون أقل بكثير من أصحاب البشرة السمراء عما هو لدى أصحاب البشرة البيضاء وهكذا فطرنا الله ومن أحسن من الله فطرة؟
قال تعالى: {صٌبًغّةّ اللَّهٌ وّمّنً أّّحًسّنٍ مٌنّ اللَّهٌ صٌبًغّةْ وّنّحًنٍ لّهٍ عّابٌدٍونّ}. ويقسم لون الجلد إلى ستة أنماط:
النمط الأول هو اللون الأبيض القوقازي، ويزداد لون الجلد عمقاً حتى اللون الأسود وهو المعروف بالنمط السادس. ولقد جعل الله تعالى اختلاف الواننا من آياته البينات إذ يقول في محكم آياته: {وّمٌنً آيّاتٌهٌ خّلًقٍ السَّمّوّاتٌ وّالأّرًضٌ وّاخًتٌلافٍ أّلًسٌنّتٌكٍمً وّأّلًوّانٌكٍمً إنَّ فٌي ذّلٌكّ لآيّاتُ لٌَلًعّالٌمٌينّ} . أما العلاجات المتوفرة والتي نصفها نحن أطباء الجلد والمعروفة بالأدوية المفتحة للبشرة فهي عبارة عن مجموعة من الأدوية الموضعية، ومنها مركبات الهيدروكينون، والريتينونيدات، وحمض الفواكه، بعض الحموض التي تعطى بنسب محددة وهي تختلف من مريض لآخر، وهذه المجموعة من الأدوية تستعمل في حالات ازدياد صبغة الجلد، كما هو الحال مثلا في الكلف والنمش، والتصبغات الجلدية التالية للأمراض الجلدية، وذلك عند وجود ازدياد حقيقي للون الجلد واضح للعيان.
وكم من مريضة سألتني عن الإبرة السحرية التي تزيل لون الجلد تماما فيتحول إلى بياض ناصع كالثلج. لكني للحقيقة لا أعرف أية إبرة هذه التي يتكلمون عنها؟!
فلا وجود لمثل هذه الإبرة مطلقاً لا في أوروبا ولا في الأمريكيتين ولا حتى في بلاد الواق الواق. لقد طغى زمن المال والأعمال حتى على صحة الأجيال!
وصار من المألوف جداً أن ترى عند العطارين أكواماً مكدسة من كريمات تحتوي على أشد أنواع الكورتيزون تأثيراً كتب عليها «كريم الحساسية وتفتيح البشرة» بجانب الصابون البلدي والبهارات وربما ليس ببعيد عن الفلفل الأسود وخلطة «الكبسات».
وللأسف الشديد أصبح السوق يعج بعشرات الأنواع من الكريمات المخصصة لتفتيح البشرة دون أن يذكر أي تركيب طبي لمحتوى هذه الكريمات. وإذا فكرت مرة أن تسأل عن محتوى هذا الكريم يكون الجواب إما أن التركيبة سرية «ولا أسرار في الطب» أو أنها عشبية، ولا علم لنا بنوع معين من الأعشاب يفتح لون البشرة.! أو أنهم يخبروك بأنه نتاج فريد، للجلد مفيد من ماء ينبوع يتفجر من الجنوب الفرنسي تم خلطه بعشبة صينية من بكين، وعطر فواح أصلي من باريس، مضاف إليه قطرات من مشتقات غير نفطية مستخرجة بدقة متناهية وكفاءة عالية وخالية من الرصاص، من حقول النفط في تكساس، ممزوج بمواد غير نووية وممهور في فيينا بختم وتوقيع وتصديق الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومرفق من بروكسل بشهادة تضمن خلوه من جراثيم الجمرة الخبيثة، لتحضره اليد الماهرة السويسرية، ثم يوضع في علبة أنيقة من برلين، وعبوة ذهبية من لندن، وغلاف ناعم شفاف مستخلص من عشبة السلام المستكشفة في أمستردام، بترخيص من كندا، وتصدير من إيطاليا، ليصل إلى الرفوف الجميلة المنسقة في محلات التجميل والعطارة والصالونات المنتشرة في الشرق الأوسط!!
وما زاد في انتشار هذه الكريمات هي الثورة الإعلامية المصاحبة لها في الفضائيات وعلى صفحات الجرائد التي فتحت لها صدرها في عالم ال (Business) وأفردت لها صفحات واسعة. لنقرأ عن كريم يفتح البشرة في أربعة أسابيع ثم تفاجئك الصفحة التالية بكريم أشد تأثيراً وفعالية ونجاحاً بتفتيح البشرة خلال أسبوعين فقط، وقد رسمت حوله هالة جذابة ذهبية لتعطيك انطباعاً بالقوة والمصداقية، وهم بالطبع يزعمون أنها كلها طبيعية، فتركيبتها الغنية محضرة من الطحالب العشبية، البرية والنهرية والبحرية، الأرضية منها والقمرية، وخالية تماماً من الآثار الجانبية. وما عليك يا صديقي إلا أن تضع يدك في جيبك ولا تخرجها خاوية لشراء تلك التي يسمونها «أدوية». لقد تمت دراسة العديد من الكريمات المتوفرة في السوق المحلي، وثبت أن معظمها يحتوي على مادة الزئبق السامة التي قد تؤدي إلى إحداث آثار جانبية خطيرة مثل الفشل الكلوي، واضطراب الوظائف الكبدية، فضلا عن بعض العلل في الجملة العصبية. لطالما جلست أتحدث إلى المرضى عن جدوى استعمال الأدوية غير الطبية المفتحة للبشرة، وعن الأذى والضرر الذي يمكن أن يلحق ببشرتهم وأبدانهم نتيجة استعمال مثل هذه الكريمات المنتشرة في الاسواق. كنت أنجح أحياناً وأفشل أحياناً أخرى، إلا أن هذا لا يعني بالطبع أني يئست أو ان اليأس سينتابني في يوم من الأيام. ومع أنه يمكن اعتبار سمرة الجلد من ملامح الجمال كما هو البياض، ففي اللون الأسمر عذوبة وحلاوة، وفي اللون الأبيض صفاء ونقاء، وكلاهما جميل، لكن إقناع الناس أمر ليس دوماً سهل المنال. آسف أيها السادة. يجب أن أعود إلى عيادتي سريعاً لأن مريضتي لا تزال تنتظرني وربما يكون انتظارها قد طال فهي لا تزال تطلب مني كريم «تفتيح البشرة»..! أرجوكم دلوني ماذا أفعل؟.
*عيادات ديرما - الرياض |