في بلادنا ماتزال وللأسف المنزلة الأولى للخطيب وصاحب الحديث الجذاب والبلاغة الأدبية ففي كل صلاة يبرز واعظ جديد، وكل يوم يولد شاعر مرهف، وما تزال المحاضرات الفكرية ومصانع العقول ثقيلة الظل على السامع والقارئ ومن يذهب إليها يتهم بالجنون لأنه خرج من عيادة نفسية.
أقول وبما أننا نعيش هذه الأيام التي نتلمس فيها طريق التغيير وطريق النهضة، نحن بحاجة لوجود مفكرين بعدد المغنيين، أقول نحن بحاجة لروتانا أخرى تحوي المفكرين والمبدعين تقدم لهم الدعم المادي والمعنوي، أقول نحن بحاجة لمفكرين يعرفون سنن التغيير وأمراضنا الاجتماعية والاقتصادية وواقعنا وواقع غيرنا تمام المعرفة، لأن مشكلتنا الكبرى لا تحل إلا ب«أولو الألباب» وعندما ذكر القرآن الكريم أن عشرين من المؤمنين يغلبون مائتين من الذين كفروا قال: {ذّلٌكّ بٌأّنَّهٍمً قّوًمِ لا يّفًقّهٍونّ} ولذلك قال عبدالله بن مسعود يصف بعض المظاهر في آخر الزمان: «يكثر الخطباء ويقل الفقهاء»، فعندما كان المفكرون المخلصون هم الموجهون للحركة المدنية كانت الحياة تسير سيرا صحيحا وكنا محط أنظار العالم، وعندما انفصلت الإدارة عن الفكر أصبنا بالانحراف الفكري ثم بالفشل، ولأن الفكر والمفكرين بهذه الأهمية ولأنهم وأفكارهم محور رئيس في صناعة حضارات الأمم فقد تقرر في أوكار الصهيونية العالمية تدمير المسلمين من خلال تشويه فكرهم الأصيل وتخريب عقلهم السليم من ناحية، ومن ناحية أخرى القيام برصد الأفكار الفعالة التي تحاول إعادة بناء الفكر من جديد بهدف القضاء عليها في مهدها أو احتوائها قبل أن تصل إلى الناس لأن الهدف هو الإبقاء على العاطفة كأساس في الاجتماع وتحت سلطانها وليس على أساس الفكرة والمبدأ. في دول الغرب الآن نجد أن السر في قوتها هو تكامل الفكر بالإدارة، واعتماد رجال التخطيط في دوائر الإدارة والسياسة على ما يقدمه رجال الفكر العاملون في مراكز البحوث والدراسات، ففي الوقت الذي نجد في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا قرابة خمسة وأربعين ألف حقل فكري معرفي متخصص، ما تزال مكاتب الدراسات الإستراتيجية عندنا معطلة- والله المستعان- وكل جهاز إداري يستقل بمكتبه الاستراتيجي كواجهة إدارية تبرر أخطاء المسئول بدلا من إيجاد الحلول.
، إننا مطالبون بالتفكير في الآفاق في أسرار التشريع في سنن التغيير «{إنَّ اللَّهّ لا يٍغّيٌَرٍ مّا بٌقّوًمُ حّتَّى" يٍغّيٌَرٍوا مّا بٌأّنفٍسٌهٌمً} وهذا التفكير يأتي بالتأمل والتعمق في فهم الأمور، يقول الأستاذ محمود شاكر: إن العقل هبة الله لكل حي، ولكن أساليب تفكيره كسب يكسبه من معالجة النظر، ومن التربية ومن التعليم، ومن الثقافة، ومن آلاف التجارب التي يحياها المرء في هذه الحياة.
|