بقايا .. من جدار قد تهدم.. اختبأت تلك الأسرة.. خلفه.. وتفيأت ظلاله.. فلم يكن .. غيره.. مأوى.. ولم يعد هناك درب. إلا في مسافته.. وعلى الجانب أخذت الأسرة تمارس وضعها.. وتبعثر حاجاتها الحياتية.. فثُلة من الملابس تناثرت والاخرى نُثرت.. والاطفال هناك.. يتمزقون ألما وجوعاً..
أجزاء من خبز.. يابس.. وعلب الغذاء.. التي نخرها الصدأ وخرَّبها.. وتوغلت اليها حرارة الشمس.. وقطع من الفرش المتهالك.. ولحف قديمه.. تتسابق العائلة.. لتتدثر بأجزائها.. يهدأ الجو قليلاً.. ويسكن الالم .. لكن صرخات الجوع.. تتمادى.. فتهوى بها الرياح.. وترصدها لائحة الايام.. وحين يحل الظلام ترتمي الاجساد.. هلعاً.. ويأساً.. واستسلاما.. ويظل الوالدان.. يترقبان وكأنهما في انتظار .. هل تثبت الارض.. هل تتوالى الارزاق طولاً.. لا أمل في ذلك.. فالاجواء تحكي غير ذلك.. والمحيط يؤكد ثبوت الفشل .. فهذه الليلة ستكون رفيقة سابقاتها .. وجميعها التي اتفقت على هذا الغرض الموجع... فلا الليل يبشر ويضفي هدوءاً .. ولا النهار سيسفر عن رحمة غابت منذ زمن .. ذلك الذي نثر الآهات وقرر تواصل الويلات.. ولسنا وحدنا .. من تحمَّلنا هذه الصورة.. ولكنهم حولنا الكثيرين. فهنا وهناك .. وقد باتت امتار ارضنا.. تتقاسم اجسادنا الميت منها والحي ومضينا .. تنجرف الايام امامنا.. وهي تتعاقب إهداءنا.. ذلك الظلم.. وحجامة القهر والاعتداء.. وتساوت عندنا اللحظات.. وكأن نور الكون .. يخاصمنا .. ويرفض زيارتنا.. فلم نعرف من نهاراتنا.. غير زحف المآسي.. التي اكتنفتها كل ليلة.. تمضي بنا.. ومن أجل أن نشقى دفعنا الثمن غالياً.. سلباً لا خياراً.. قهراً لا ارتياحاً.. تحولت مياهنا.. وديارنا، طرقاتنا.. ساحاتنا.. أجسادنا.. إلى لوحة حمراء .. حمراء.. وتبدل هواؤنا .. نسيمنا.. فضاؤنا.. أجواؤنا.. إلى غيمة سوداء.. سوداء.. وهنا وبهذا السور .. فقط نحتمي.. وبلا سقف نرتمي.. تناقصت اعدادنا.. تبعثرت حاجاتنا.. وتمزقت اشلاؤنا.. وتبددت املاكنا.. فلا أرض.. ولا ماء.. وضياع مرتع ودواء.. وحدوث أصناف الوباء.. وأقوام.. تهرول حولنا.. وتضرب الأرض .. عرضا وطولاً ..وفي الخفاء.. ويلاه من هؤلاء .. إنهم شبح العداء.. قتلاً .. ونهبا.. واغتصاباً.. واعتداء.. وهناك بين شروخ .. اوجاعنا.. يندس البلاء.. وينعدم البقاء.. وتهرب من دواخلنا السكينة.. ويهجرنا المنام.. وتتلبد من حولنا .. الهموم.. والمآسي الجسام.. فأمُّ .. تودع ضناها.. بأمل اللقاء .. ولكنه .. وبلا تمرد.. تاه. وطفلة .. تنتظر أمها.. وبلا شرود.. لم تعد.. وأب ارتجى.. ان يعاود نظرة .. لأهله.. ولكنها لم تكن.. والارض التي انتشلت .. بيداؤها وجُرِّدت من خصبها.. وقسمت خيراتها.. واخفيت معالمها.. الآن.. ليست هي الأرض.. حين فقدت ترابها .. وباتت بلا ثريا.. أو سماء.. ستظل تقدم.. العزاء لأهلها.. ان هم بقوا.. وفي كل المرابع..والمراتع.. والجسور جدبت الديار.. وتضاءلت معالمها.. وتقلصت آثارها.. وانقرض تاريخها.. فلمن يكون النعي والرثاء..؟! وفي يوم مشمس انقطع الماء .. عن اسرة ذلك الجدار .. نظر أحد الأفراد إلى الأبوين ودرس ما ارتسم في العينين.. ولى مسرعاً.. لم يستأذنهما.. فزعت الام .. واضطربت.. ومدت ببصرها.. إلى حيث هرولته .. هي الآن .. لا تريد الماء.. تبحث عن رحمة السماء.. وعفو الطريق.. واغاثة الاحياء.. فالبحث .. سيستقر عن الابناء.. ذهب الابن.. يلهث في الطرقات.. يتلمظ بين المسافات .. ويبرق من حوله الخوف والبغتات.. غدا.. متثاقلاً.. منهكاً.. حاول الارتجال.. لكنه عجز.. فقواه تذبل.. وتكاد تنتهي.. وهنا لم يستطع.. سقط .. وابتعد عن الوعي.. وبعد وقت.. لم يكن قد كتب.. عليه ان ينتهي ويغيب.. مر بجانبه رجل كان يرتحل.. فلفت بصره .. هذا الجسد.. اقترب منه.. هل هناك روح.. وبقايا نفَس لم يزل..؟
حمله .. علَّه يتمكن من عمل .. فلله وحده الأجل.. ورويداً سار الرجل على أمل.. ولأقرب منزل .. أذن له.. ان يذلف إليه .. ومضى أصحاب البيت.. يتسابقون .. كي يقدموا ما بوسعهم.. فالحال التي بين ايديهم.. تحتاج فطنة واستدراك.. وظل الابن.. ماكثاً هذه الأيام.. في ضيافة أهل البيت.. فقد تعود أهل هذه الديار.. المروءة .. والنجدة.. والاستعطاف.. والبسالة المعنوية.. التي تصور الرحمة.. وتمثل الاحساس.. ازدادت حالة الضيف.. سوءاً.. وتراخت مناعته.. وتضاعف هم.. المضيف.. ان وضع أهل البيت .. كحال الاسر المنتشرة في الحي.. فقيرة.. مضطهدة.. مشردة.. فما العمل.. لأجل هذا العضو؟ ومن أجل الحفاظ على فرد من الوطن.. خرج الأب.. باحثاً عن سبيل.. للإنقاذ.. ولعله أثناء ذلك .. يجد ذويه.. في الاطراف المترامية.. مشى يحمل أملاً.. وألماً.. وحالة يرثى لها.. أخذ يسائل من يمر بهم.. وينشد المارين .. دليلاً أو عنواناً.. ولكنه في كل مرة .. ينهزم.. ويشتد عناؤه.. ويفقد ما لديه.. من بصيص الرجاء.. وعاد الأب محملاً.. بالأوجاع والهموم.. وخيبة الافلاس.. ومضى والجاً.. بيته ليلاً.. وبينما المساء .. يغشاه الظلام.. ويبيت خلاله الخوف.. والأّز .. والابتلاء.. إذا بأصحاب البيت.. يولولون وتضيق بهم الضائقة.. فأجل الله آت.. وقضاؤه سار وحالّ .. فجع الأب ولكنه في الاثناء.. لم يعترض.. وأيقن .. ان مآل هذا المشرد .. كغيره.. من الالاف المشردة.. ممن طمست حقوقهم.. وسلبت أعمارهم..! ولأن ذلك الوطن .. يعيش هذه المأساة بل وأهله قُدِّر لهم.. أن تغتصب ديارهم وتسحق أرضهم.. ويعصف بكل ما في حوزتهم أو يمكن.. ان ينالهم .. خيم الحزن .. وفاض.. العناء.. وقتلت منية البقاء.. وأسرة الراحل.. لا يختلف حالها.. وظل الابوان .. يودعان الابن.. دون دراية عاجل به.. فالوضع القاسي الذي تتقاسمه الأسر .. ويزلزل البلد.. أجبر هؤلاء على الاعتياد.. والرضوخ.. وبينما.. الاسرة تقبل .. على غفوة.. قد غابت من زمن.. سمع الجميع.. .دوي الانفجار .. الذي أخذ سكونهم.. وبعثر راحتهم .. واشاع القلق والانهيار والاجواء .. الهزات والصخب.. وتهيأت الارواح لمقاومة الرحيل ونزح من يستطيع.. واستسلم آخرون.. وفي هذه الاثناء .. سقط ذلك الجدار.. وانحدرت جزئياته.. تقصد كل فرد .. من أولئك القاطنين.. ولأن اوضاعهم .. كانت قد تأزمت .. واجسامهم هزلت .. وبقايا اشيائهم تفتتت.. فلا غير الوداع والانتقال الابدي.. وليس إلا الهمود.. والعجف لأغلب الاجساد.. نيران تندلع .. وصروح تنهار.. وأسوار تنهدم.. وانفس تغتال.. وثروات تهلك.. ووطن يُحيل!! ومن بين كل ذلك .. يبرز الجدار.. لم يكن الا جزءاً من سور.. كان سلاح الاسرة .. وحاميها.. لكنهم.. لم يدعوه.. وصل شرهم إليه.. وتوغل فجورهم.. ليقتحمه ... فذهب تصحبه الاسرة .. وتلتحف به الاحزان الجسام.. فلا الجدار بقي .. راسياً.. ولا أهله .. سيمكثون.. والارض الغاضبة تصرخ.. متى سيبزغ فجري.. ويعيد للأرض .. السلام.
الرياض |