Friday 16th January,200411432العددالجمعة 24 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

تحت الجسر تحت الجسر
قصة قصيرة
نوال الجبري

تنتظره طويلاً لم تكن فترة الانتظار سوى مولد اللقاء بعد عمر انزوى تحت عباءة الانتظار أن تكشف الحياة وجها قمرياً كوجهه رأته بعد أن اكتست برودة الموت مشاعرها.. تقدمت خطوات؟ خطوات؟ خطوات، إنه هو!!
تمعن النظر وتصرخ أنه عاااااااااااد لكن بلا ملامح!!!! هل هي لعبة الأطياف؟ كلا بلا ملامح كانت عودته المنتظرة سوى دمعة طفرت وسالت على وجنته....
اقتربت أكثر.. وتقدمت.. يدي تمسح دمعة ساخنة سالت على كفي ونظرت إليها.. أفجعتني لشدة حرارتها فهل كانت حرارة السنين أم الفراق؟
ترتجف يدي وأمعن النظر في كفي وتنزلق الدمعة لتتحول إلى ورقة مكتوبة على كفي بحروف من ماء شفافة..
لا استطيع أن أقرأ أياً منها لم أعتد قراءة كتلك، أهرب وأجري إلى الزمن البعيد القريب واحطم أمامي كل صورة تسكن متحف عقلي الكبير..
أسكن منفى الحياة وأعيش إنسانة عادية جداً، أصعد الجسر.. جسر الحياة.. وأسير.. وأطل على البحر ينام بسلام تحت الجسر وكأنه وشاح مائي بأمواج تحركه الرياح وأطل بعيني على هذا الوشاح المتقوقع تحت الجسر وأنظر على سطحه تطفو ملامحه.. ها هي الحياة اعادته لي بلا ملامح وبعثت لي ملامح متفرقة.. أبكي خوفاً.. وتنزل حبال دموعي طويلة جدا بحجم خوفي الذي يتجاوزها طولاً وتتمسك بها ملامحه محاولة النجاة تحملها دموعي إلى الحياة من جديد.
تعود إليه من جديد تحمل بيديها ملامحه وتقدمها له وترحل..
تزجه الحياة التي أعادته لها في سجن جديد ليس ككل السجون إنه (سجن الرفض)، ولو حفظ عن ظهر قلب كل الكتب فلن يخرج منه.
يجدها عاشق آخر تنظر للوشاح الأزرق من فوق الجسر وتتصيد الكائنات بنظرها المتتابع، يمسك يدها ويرحلان.
يتزوجان.. تعيش بسعادة لعلها أكبر من سعادته التي أفنت وقتها في سبيل انتظاره..
تعتقد أن زواجها منه مجرد مكافأة بسيطة من الحياة للحزن الذي طوقها كعقدها، لكن تسير 10 سنوات دون أن تنجب وتبدأ حمى الحزن واضحة الملامح عليها وهبت لها زوجاً ولم تهب لها أبناء..
في آخر إحدى الليالي تنظم فيها آخر لؤلؤة سوداء لتفاجئهما بعقد الصباح الوضاح، اقتحم زوجها المكان الذي تحتضر فيه حزنها بدموع تسكبها كثيراً هذه الأيام وألقى بجملته «هل تعرفين لماذا لم نزرق أبناء؟ لأننا مختلفان.
أفاقت على فجيعة أكبر من الحزن الذي يأسرها..!! ولماذا لم تخبرني قبل أن نتزوج؟؟!
لأنني لا أرغب في أن أخسرك لأي سبب!
انهارت.. تعيش معه سنتين في منزل واحد ولكن كل منصرف عن الآخر في حالة عصيبة لا تعرف ماذا تفعل هل تتركه؟! أم لا؟؟!!
وهو كذلك حبه الشديد لها يقف حائطاً أمامه فلعلها تقتنع..
خرجت للجسر تجري عليه وهي مشلولة العقل بمصائب الدهر ودخلت المدينة التي كانت تعاديها المدينة العربية وتتجول في أسواقها تتساءل عن الصبر أين منزله؟!
تصرخ في منتصف السوق بين الناس التي أصبحت تسير بجوارها أحبالاً بشرية دون إحساس وتسقط.. تبلل بقعة من الأرض.. تروي عطش الظلم الذي تمدها الحياة به هدية بعد كل سعادة 12 عاماً بلا هدف زرعت فيه كل مقدرتي وأفنيت فيه شبابي لماذا الرجال خونة؟!
تسير إلى المسجد وتضع جسدها المنهك على حائط المسجد وكأنها معلقة ثم تذوب من عدم مقدرتها على الاستمرار في الوقوف إلى الجلوس وما زال ظهرها معلقاً على الحائط..
يجتمع الناس لأداء صلاة الاستسقاء وبعد خروجهم من الصلاة تهطل السماء تروي كل عطش الكائنات، وتجد جسداً أمامها.. شيخ يتحدث معها وهي شبه غائبة لا تسجل لها الحياة حضوراً..
وتستفيق بعد أن ألقت كل حكاياتها بشكل سردي وكأنها رواية ذات فصول كلها مظلمة يعدها هذا الشيخ الوقور بأن يجد لها حلاً في القريب العاجل ويغيب هذا الرجل بعد أن فتح لها بيتاً وملأه بكل ما يساعدها على الاستمرار في الحياة..
يعود من جديد يحمل لها ورقة الخلاص التي أصرت هي أن تنالها واستمرت في خدمة ضيوف المسجد من أكل وشرب وكل ما يحتاجونه ويطلبه الشيخ منها.. حياتها الهادئة هذه موجة فيها روحانية الإيمان التي لم تلمسها طوال سنوات عمرها الراحلة رغم أنها لم تفرط بفرض واحد لكن أن تعلم شيئا بعيداً كل البعد عن أن تمارس العلم دون عمل لا فائدة منه أساساً رصيد فارغ.. هذه اليد الحانية.. يد الشيخ كانت أجمل يد احتضنت تشوه الحياة في عقلها وعالجتها من هذا الانحدار.
تقدم الشيخ يطلب يدها زوجة له وتم زواجها بسعادة تفوق كل ما لمسته من سعادتها التي عاشتها منذ زمن شحيح بأفراح كهذه تكلل هذا الزوج بابنة وتتابعت شهور حملها سنة تلو أخرى إلى أن امتلأت حياتها بأبناء وبنات صالحين.
عادت هي وزوجها يسيران ممسكاً بيدها على جسر الحياة وتركته ينظر إليها وأطلت بعينين وجلتين في وشاح الماء الملون بالأسماك الشفافة.
لم تجد شيئاً سوى منادياً في البعيد ينادي بها ونظرت بعينها تبحث عن المكان ووجدته في الأسفل تماماً إنه زوجها وابتسمت.. وتابعت الضحك.
حتى قفزت في البحر وانغمست في البحر وهي مبتسمة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved