في هذه الأيام يبدأ تكامل الحجاج في الديار المقدسة، التي جعلها الله مثابة للناس وأمناً، فقد جاؤوا من كل فج عميق، ومن تباعد الديار في أرض الله الواسعة، وفوداً كراماً في رحلة تعبدية، استجابة لأمر الله وأداء لركن من أركان الإسلام، الذي فرضه الله على المسلمين، مرة واحدة في العمر لمن استطاع، وقد حرص كل فرد طوال عمره، على تجميع نفقة هذا الحج، من مال حلال، ومن مداخل لا شبهة فيها، حتى يكون دعاؤه مجاباً، وجهده مشكوراً، ومشاركة إخوانه المسلمين، وفق ترسمهم خطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجه، حيث قال: «خذوا عنّي مناسككم» وفي حثّه عليه الصلاة والسلام الأمة، على أداء هذا النسك بسكينة ووقار عندما قال للصحابة في مسيرتهم لأداء أعمال الحج: «عباد الله السكينة السكينة».
وقد هيأ الله سبحانه للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ما يعينهم على التكاثر والتوافد في قدومهم إلى المملكة العربية السعودية، بما بذلته وتبذله هذه الدولة، بمرافقها المختلفة، من جهود وأعمال، ومن تجديد في التنظيم وزيادة في الخدمات.. إنها أعمال تذكر لتشكر.
فقد يسرت الدولة السعودية، كل أمر يهم الحاج والمعتمر والزائر لمسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث بُذلت الأموال، واتسعت المشروعات، وتيسّرت الطرق السريعة الممهدة، وتوفرت جميع المتطلبات التي يحتاج إليها الوافدون، مع أهم ما يعينهم على عبادتهم، في جوّ روحاني واطمئنان قلب: ذلك هو الأمن، الذي ضرب أطنابه في البلاد، منذ دخل الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ورجاله، مكة المكرمة في عام 1343هـ، مُحرمين بالعمرة، بخشوع ووقار، متأدبين مع الله، ومقدسين لبلده الحرام، وبيته الحرام الذي جعله سبحانه: مثابة للناس وأمناً.
حيث وضع جهده رحمه الله - بعد الابتهال إلى الله وشكره، بأن يكون خادماً للحرمين الشريفين، متفانياً في كل أمر يصلح الله به شأن المسلمين، في وفادتهم وأداء مناسكهم، عندما أسرعوا مستجيبين لله: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك.
فكان أول ما قام به في ذلك العام: أن هيأ السّبل، وجهّز ميناءي رابغ والليث، بكل ما يلزم الوافدين إلى بيت الله الحرام، وبعث الكتب للآفاق، وخاصة للهند، وحكومة بريطانيا وغيرها، باعتبار أغلب بلاد المسلمين تحت ولايتهم، لكي يبلغوا الناس في تلك الديار، بما تحقق في أرض الحرمين من أمن وارف لم تشهده البلاد من عدة قرون، وبما سعى فيه من أعمال تريح ضيوف الرحمن، من ساعة وصولهم، حتى رحيلهم، بعد أداء ما جاؤوا من أجله: باطمئنان وأمان، وخدمات ورعاية، وتسخير كل الطاقات التي يرنو إليها الوافد، سواء في الطريق ومواصلاته، أو في الحرمين الشريفين، واستيعابهما للقادمين، أو في تيسير مسيرة الحج في المشاعر.
برزت هذه الأمور عياناً دون أن تكون كلاماً، وبثت الأمور في قلوب المواطنين صدقاً وترحيباً، دون أن تكون ابتزازاً، لأن القيادة الموجهة نشطت في القلوب مسؤولية الأمانة التي يحث عليها الإسلام، وأيقظت في الأفئدة منهج المدرسة الأولى من رعيل هذه الأمة، وبما تلقفوه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من شعور بالمسؤولية، ورغبة في الأجر، بما يقدّم لضيوف الرحمن من أعمال من نفوس مطمئنة، وبرعاية من القيادة الحريصة التي لسان حالها أمام ضيوف الرحمن، كأنها تردد مع الشاعر قوله:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل |
فيسعى الكل في أعمال مترابط بعضها ببعض في خدمة وفد الرحمن، وتيسير ما يريحهم لأداء عباداتهم، كل ذلك بدون منّ ولا أجر إلا من الله سبحانه.. رغم أن موارد البلاد - ذلك الوقت قليلة جداً - فعلم الله من القلوب صدقها، ومن القيادة إخلاصها، فأفاء سبحانه بعد ذلك على هذه البلاد الصحراوية القاحلة، على ما حول بيته المحرم، الذي قال فيه النبي الكريم: أبوهم الخليل عليه السلام عندما وضع زوجه هاجر، وابنها اسماعيل فيه: {رّبَّنّا إنٌَي أّسًكّنتٍ مٌن ذٍرٌَيَّتٌي بٌوّادُ غّيًرٌ ذٌي زّرًعُ عٌندّ بّيًتٌكّ المٍحّرَّمٌ } [إبراهيم: 37] .
علم الله النيّة الصادقة، فأفاء خيراته على أهلها، التي كان أثرها مشاهداً أمام كل حاج وزائر ومعتمر، توسعة في الحرمين الشريفين، بما لم يشهد التاريخ مثيلاً: عمراناً وهندسة، وسعة في كثرة الاستيعاب، وتسهيلاً للوافدين الذين يتكاثرون عاماً بعد عام، وأعمالاً جبارة في المشاعر والطرق المؤدية إليها، وأنفاقاً تخترق الجبال الشاهقة، وغيرها من الصعاب التي ذللت.
إنها أعمال يُسرت لإراحة ضيوف الرحمن، تزداد توسيعاً وتحسيناً وبذلاً وهندسة، في كل عام، يعرف هذا كل حاج، أو زائر، أو معتمر، تكررت زيارته، رغبة في العبادة أو للعمل، بما يبرز أمامه من تزايد الأعمال، وتتابع التحسينات والتطويرات، لا ينكرها أو يغمط حقها: إلا حاسد أو ناكر للجميل، ولم يراع أمر الله سبحانه في قوله الكريم: {وّأّحًسٌن كّمّا أّحًسّنّ اللَّهٍ إلّيًكّ} [القصص: 77] وواجب المسلم المخلص لدينه، والحريص على طاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المهتم بأمر المسلمين في توادهم وتراحمهم، وتعاطفهم فيما بينهم، حسبما تستوجبه أخوة الإسلام، التي أمر الله بها، أن ينطلق في أعماله ومودته من تلك الأوامر التي جاءت في كتاب الله، وحرص على تأكيدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله الكريم: «من لم يشكر الناس لا يشكر الله» «رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه».
وأنَّ مِنْ شكر الله العرفان بالفضل لذوي الفضل، والدعاء لهم بما فيه خير الإسلام والمسلمين، فإن من الدعوات المستجابة دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب، وإعانتهم بالنصح والمحافظة على هذه المجهودات، وما قدَّموا لضيوف الرحمن من مكتسبات في مجالات عديدة، يراها الوافد منذ وصوله لهذه الديار، تسّر الصديق وتقهر العدو.
وإن من مخاطبة العقول لدى حجاج بيت الله الحرام، النصيحة لهم بأن يتفقهوا في أمور دينهم، ويتبصروا في مناسك حجهم، ويتعارفوا بإخوانهم، حتى يتأصل هذا التعارف: محبة وألفة: {إنَّمّا المٍؤًمٌنٍونّ إخًوّةِ} [الحجرات: 10] وحتى يرجعوا من حجهم فائزين غانمين، مغضبين لعدو الله الشيطان، بكثرة من غفر الله لهم في يوم عرفة، واقفين صفاً واحداً، أمام عدوهم الأكبر الذي يحاول بث الفرقة، وغرس بذور الشر والفساد في مجتمعهم..
إن هذا التجمع الإسلامي الكبير، وذلك المشهد على صعيد عرفات، يجب أن يؤصل في أفئدة الحجاج المعنى المستفاد، والمغزى الذي يربط المسلمين على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، بمهمتهم في الحياة،.
علاوة على ما يرجونه من ثواب الله بعد الممات.. لأنهم مأمورون بأن يتفقهوا في دينهم، وينذروا قومهم، إذا رجعوا إليهم.. وذلك بالسؤال والاسترشاد من أهل الذكر العارفين، الذين أمر الله بسؤالهم، وهم بحمدالله كثير، وهيأتهم الحكومة السعودية في جميع المشاعر ليعلموا المسترشد، ويبصروا الجاهل.
وإن مما يعين حجاج بيت الله الحرام، في معرفة ما عليهم من أعمال في نسكهم، إن نبسط أمامهم صفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم، لكي يترسموا خطى نبيهم، ويعملوا وفق ما عمل، لعل الله أن يجعلهم بهذا عائدين لبلادهم، وبحج مبرور وسعي مشكور، وتجارة رابحة وعلم ينفعهم وينفع من وراءهم.
في موت رسول الله:
جاء في كتاب نهاية الأرب للنويري، وفي كتاب معاهد التنصيص: إن أبا ذؤيب الهذلي قال: بلغنا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليل، فأوجس أهل الحيّ خيفة عليه، فبتّ بليلة ثابتة النجوم، طويلة الأناة، لا ينجاب ديجورها، - يعني ظلامها -، ولا يطلع نورها، حتى إذا قرب السّحر غفوت، فهتف لي هاتف، فإذا هو يقول:
خطبٌ أجلّ أناخ بالإسلام
بين النخيل ومعقد الآطام
قُبِضَ الرسول محمد فعيوننا
تذري الدّموع عليه بالتِّسجام |
فوثبت من نومي فزعاً، فنظرت إلى السماء، فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به ذبحاً يقع في العرب، وعلمت أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد مات، أو هو ميّت من علّته.. فركبت ناقتي، وسرت حتى أصبحت، فطلبت شيئاً أزجره، فعنّ لي شيهم - ذكر القنافذ -، قد عضّ على حيّة وهو يتلوى، والشيهم يقضمه حتى أكله.
فزجرت ذلك شيئاً مهماً، فقلت: تلوي الحية، انفتال الناس، عن الحق على القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أوَّلت أكل الشيهم إياه، غلبة القائم على الأمر.
فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بعلية القوم، زجرت الطيّر فأخبرني بوفاته، ونعب غرابٌ سانحاً بمثل ذلك، فتعوّذت من شرّ ما عنّ لي في الطريق.. ثم قدمتُ المدينة ولأهلها ضجيج، كضجيج الحجيج، أهلّوا جميعاً بالإحرام. فقلت: مَهْ!!.. قالوا: قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجئت المسجد فأصبته خالياً، فأتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأصبت بابه مرتجاً - أي مغلقاً -، وقد خلا به أهله، فقلت: أين الناس؟ فقيل: في سقيفة بني ساعدة، وصاروا إلى الأنصار.
فجئت السقيفة فوجدت أبا بكر وعمر، وأبا عبيدة وسالماً، وجماعة من قريش، ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة، ومعهم شعراؤهم وأمامهم حسّان بن ثابت، وكعب في ملأ منهم، فآويت إلى الأنصار فتكلموا فأكثروا، وتكلم أبو بكر فللّه من رجل، لا يطيل الكلام، ويعلم مواضع الفصل.
والله لقد تكلّم بكلام لم يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه، وتكلّم بعده عمر بكلام دون كلامه، ومدّ يده فبايعه، ورجع أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ورجعت معه، فشهدت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدت دفنه «نهاية الأرب 3:142».
|