يخرج إلى المجتمع يسحب حقيبته الثقيلة المزدحمة بمفاهيمه وتصوراته وتجربة محدودة في نطاق اجتماعي ضيق، ومن ثم يضع هذه الحقيبة سداً منيعاً بينه وبين الآخر ويفرغ محتوياتها ويرصفها جداراً أمام الآخرين وإذا أتت مقاساتهم متطابقة تماما وتتواءم مع التفاصيل الصغيرة التي اختارها كتفسير وتأويل للعالم وفق حقيقته الخاصة (بالطبع لن يوجد إلا في ما ندر) وإلا فهناك مجموعة من الأوصاف الجاهزة التي تنعت المختلف بالخروج والمروق ومن ثم يقذف تلقائياً في معسكر الشر.
ثقافة القبول والتسامح، هذه المفردة التي باتت تتردد كثيراً في هذه الأيام عبر الخطاب الرسمي والأكاديمي والكثير من طروحات المثقفين، ولكنها تبقى لفظة غامضة مطاطة ليس هناك من إطار عملي يحولها إلى ممارسة يومية معاشة.
في إرثنا الشعبي عندما يستقيل كبار السن من دوامة الحياة وشظف العيش، فإنهم يختارون جداراً طينياً يقابل المشراق يتكأون عليه ويمددون أرجلهم التي أهلكها الكدح ونخر العظام، ويبدأون في مراقبة الحياة من حولهم من حضر؟ من خرج؟ ماذا فعل؟ متى؟ وكم؟ وكيف؟ كهول لا يمتلكون مشروعهم الخاص ولكنهم ينشغلون بالآخرين بفهرستهم بتحديدهم وبفرزهم في خانة الخير والشر.
وما يحدث في مجتمعنا اليوم على نطاق أوسع شيء مشابه، لا أعرف بأن هناك من أحد مشغول بمشروعه الإبداعي أو الشخصي الخاص، الجميع قد أقام من نفسه وصياً ومراقباً للآخر، أو تحديدا يلبسه أرديته ومصنوعاته الخاصة فإذا لم تتطابق مقاييسها وإياه، تعرض للطرد والنفي والإقصاء.
وستظل هذه الحالة طالما بقيت ثقافة التسامح عبارة عن مصطلح غريب مسقط بشكل فوقي تائه بين مئات المصطلحات التي تناقضه وتختلف عنه، وسيظل هذا قائماً طالما انشغل بالسطح والقشور ومتابعة الآخرين وإطلاق الأحكام الفرزية عليهم وعجز عن صناعة مشروعه وتميزه الخاص، واتكأ على جدار المشرق يترقب ويترصد بالآخرين.
|