تختلف المجتمعات الإنسانية من حيث قدرتها على التفريق بين المنطلقات الأيديولوجية والعلمية والفكرية من جانب، ومعطيات العاطفة الإنسانية من جانب آخر. وبذلك تتمايز المجتمعات المعاصرة في نظرتها للكون والحياة بقدر تمايزها في التفريق بين ما هو عقلي وما هو عاطفي. ويستند الأمر إلى حقيقة مفادها أن الأصل فيما كان عقليا هو أن يتفق الناس «أو معظم الناس» بشأنه، بينما الأصل أن يتباين الناس في نظرتهم العاطفية للأشياء بقدر ما تتباين مركبات قدرتهم على المحبة والكراهية والرضا والغضب...، وربما كان اختلاط الأسس العقلية بالمنطلقات العاطفية في الحكم على الناس والأشياء مظنة لمفاسد مجتمعية كثيرة.
وبإجراء نظرة سريعة على واقع مجتمعنا الكبير، ندرك أن لدى بعض كياناته نزعة لإضفاء المنطق العقلي على ما ليس بالضرورة عقلانيا. وربما يحدث ذلك مع رغبة ظاهرة ومعلنة في إلباس الموضوع ملبس المنطق وستره بستار الأصح والأسلم والأنفع، هذا.. إن لم يصل الأمر إلى مداخل تشريعية واستدلالات نصية وفعلية - ربما - لم تكن في محلها. ومن الأمثلة على هذا المنهج ما تُتهم به بعض الحريات الشخصية «فيما يمكن فيه التحرر من مظاهر المجموعة» من تمرد على المنظومة المجتمعية، بالقدر الذي يمكن أن يذهب فيه عدد من الكيانات أو الأفراد إلى تجريم الفعل أو الممارسة، أو إنكارها باعتبارها لا تتسق مع أهمية وضرورة التماثل المجتمعي في العادات والتقاليد والممارسات. إن الأصل في المجتمعات المعاصرة أن يتاح لأبنائها أن يتباينوا في الملبس، والمركب، والسلوكيات الشخصية أو الفئوية تباينا ظاهرا. وما دام الأمر لا يتعارض صراحة مع ثوابت المجتمع، فليس من الملائم تجريم اختلاف الناس تأسيساً على ما استقر من نظرة أو أسلوب، بل قد يكون من المناسب تشجيع سلوكيات الناس «وخاصة الشباب» على استحداث مظاهر جديدة ومميزة من التغاير الذي يعبر عن تطور مجتمعي في مفهوم الحريات الشخصية وإضفاء الشرعية أو العقلانية على مخرجات مجتمعية معينة في مقابل مخرجات أخرى سيكون وسيلة لفرض التماثل المجتمعي، والتماثل المجتمعي التام في سلوكيات الأفراد ليس مظهراً سائغاً في العصر الحاضر، بل يمكن النظر إليه باعتباره عائقاً من عوائق التعايش لأن الناس مختلفون بالضرورة، ومصادر تكوينهم الشخصي متعددة جدا.
وفرض نمطية التماثل وسيلة من وسائل تباعد الناس عن بعضهم البعض، كنتيجة طبيعية لعدم رضاهم وقناعتهم بممارسة الآخرين لحرياتهم الشخصية المكفولة بثوابت المجتمع، ولكن المرفوضة - ربما - بمحرك عاطفي نفسي لبعض الناس. إشاعة ثقافة الاختلاف في الممارسات الشخصية ونشر ضرورة تفاعل الناس مع بعضهم البعض وفق هذه الثقافة مطلب ملح من مطالب المرحلة المقبلة. قد نكون أُتينا من خلال رفضنا لأن نتمايز، أو أن نختلف في أشياء نعتقد أنها من سمات السمت العام ومن مظاهر الرشد المجتمعي.
* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|