لقد أوقدت الأحداث التي تجتاح العالم تحت اسم «الإرهاب» جذوة التحليلات، والمساءلات، والمطارحات، والمناقشات العالمية، حيث لم يعد أحد يستغني عن نكهة هذه المفردة في فمه، وإن كان بعيداً عن تفاعلاتها الحية المؤلمة.
في إطار هذا الهمّ البشري الجماعي، انفردت تجربة المملكة العربية السعودية في كونها الآن مرمى السهام والاتهام، تُطعن في أحشاء رمالها الغضة الطاهرة، وتُتّهم، أيضاً، بأنها الطَّاعن والمُحرِّض العالمي، بأنها الطَّاعِنة لنفسها، والمُحرِّضة لطعن بقية بلدان العالم خاصة مَن تُوصف ب «الكبرى» و«المستهدفة»!
والحمد لله أنْ وهب للمسلمين جلاء بعض حِكمِه صريحة للمدارك كلها في محكم كتابه الكريم؛ إذ قال جل جلاله:
) وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216)
ببساطة، لكل أمر - حدث - وجهان، يدرك منهما الإنسان واحدا على الأغلب، ويجهل الآخر، أو ينسى أن يأخذه في عين الاعتبار أحياناً، مما قد يُربك
فهمه لحياته، ولقَدره وقضائه، ولواجباته في قراءة الأحداث وتحليلها.
إذا كانت صدمة التفجيرات الإجرامية التي أثِم بارتكابها ثُلّة من أبناء الوطن المُجهَض إسلامهم لم تزل آثارها مُوجعة، فإن دعوة صاحب السمو الملكي الأمير: نايف بن عبدالعزيز - حفظه الله وسدده - لأن يقوم الأكاديميون بتحليل الكوامن الخطرة خلف هذه الظاهرة، باختلاف تخصصاتهم واتجاهاتهم في الفكر العلمي، لم تزل تضرب في أعشار بعض الأذهان المفكِّرة والمقدِّرة لهذه الثقة ولهذا التواصل والتعاون لمواجهة مسخٍ لما تتبيّن جميع تفاصيله بعد.
استقبال المحللين المتخصصين وغير المتخصصين يُفرح في حدود ما، ويُقلق في أخرى، وهمِّي - هنا - هو الحدود أو المظاهر المقلقة في معالجات «الإرهاب» وتحليلاته، لأن معظم الأُطروحات تنسبه للغُلوِّ في الإسلام، والتشدُّد فيه، والإفراط في تفسير نصوصه وتأويلها عما يُخرج عن حدِّ الاعتدال. وبالتالي، تكون صفات الإرهابي المحلية الأبرز هي:
1 - المظهر المتديِّن (اللحية المعفاة، والثوب المقصّر وفق حدود السنّة).
2 - الشباب المتراوح ما بين 15 - 30 سنة تقريباً.
3 - الفقر أو البطالة.
والسبب الذي يُحمَّل وزر ذلك - على النطاق المحلي والعالمي - هو:
1 - الدين الإسلامي، الذي يرونه قديما لا يصلح لهذه الحضارة بحذافيره.
2 - المناهج الدراسية (المتعلقة بأمور التوحيد والفقه).
هذه أبرز محاور الأطروحات التحليلية، وهي لا يمكن نفي تأثيراتها، لا وفقما هي طبيعتها الملزمة بإفراز تلك الآثار الإجرامية، وإنما وفق الشرور والأهداف التدميرية التي سيّرها أولئك المجرمون وتابعهم المجذوبون.
لقد أضحى المظهر العَفّ والمألوف للرجل المسلم الملتزم بضوابط الشرع الخارجية والداخلية رمزاً للشر، والشبهة، والضغط عليه بسهام النظرات المرتابة والمتحفِّزة لأن يعترف بأنه «إرهابي» وكذلك أبناء العمر العشريني وما قبله؛ ونحن - كمحللين هدفنا المعالجة - نضغط أكثر - بحسن نية- بالإصرار على أن هذه هي علامات أغلب شبكة الإرهاب الذين أُلقي القبض عليهم، أو تمّ التعرف عليهم ومبالغة في إصرارنا نعق بعضنا بأن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية هي المورِّد، والمنتج، والمصدِّر لتلك اللحى المتفجرة، بل لقد أصبحنا نفصِّل للملأ غدر تلك الملامح المفرط بدقائق تركيباتها لمواد المتفجرات المتاحة في الدكاكين.. غير منتبهين إلى الوجه الآخر الذي حضّنا - جلّ وعلا - على عدم إغفاله، وهو أن إعلان نشوة الانتصار باكتشاف وتعرية وسائل الإجرام وتركيباته تُحرِّك في بعض النفوس التي تكره نشوات انتصار الحق حُبَّ تجريب تلك التركيبات والعبث بها، لا لشيء سوى تلك الرغبة المريضة للمخالفة والمناقضة، ولو كان الثمن أرواحاً مسلمة بريئة، مما يُفرّخ لنا أشباه إرهابيين، مشكلتهم أنهم بملامح جديدة غير مكتشَفة، وأنَّى لنا الإحاطة بهم، بترا لأيدي فسادهم قبل أن تضرب!
وأكثر من ذلك، ركّزنا أنظارنا ومباضع جرَّاحينا المشرِّحين على قشرة الإرهاب، على صبغة قناعه الخارجي المزيف، ففجرنا الآهات والانتقادات حول:
1 - الرجل المتديِّن الذي يقع في التشدُّد والغلو، خروجا على حد الاعتدال، ونسينا الرجل المتفسِّخ من الدين الإسلامي شكلاً وجوهراً، أو جوهرا فقط، فسكتنا عن المتنعِّمين المتخلِّعين وسكتنا عن الخطَّائين والمهرِّبين ومفسدي الأخلاق، والفِطر والعادات السليمة، ونحن لم نتذكر تنبيهه تعالى إلى احتياط المسلم في أمره، وتحليل الوجه الأبيض والأسود منه، الظاهر والباطن، الحاضر والغائب؛ ففي تلك الآية أداة من أودات التفكير العلميّ، وليس مجرد معلومة تبقى في حدودها!
لقد سعينا - دون قصد - إلى زعزعة ثقة المجتمع في الرجل المتديِّن عامة، وزعزعة ثقة الرجل المتديِّن في المجتمع أيضا، وزعزعة الثقة في الإسلام بكثرة تردادنا للتهم العالمية التي تكال للإسلام في خلال شفرة «الإسلاميين المتشددين»، والدين الإسلامي بريء من ذلك جملة وتفصيلاً، وأزكى له ألا نقلِّبه يمنة ويسرة لنؤكد للمُدَّعين سلامته، لأنه سالم قبل أن يتنزل به الروح الأمين!!
2 - الشباب المراهقون، واندفاعاتهم وطموحاتهم للإصلاح الثائر حتى على إمكانات الواقع، وسذاجتهم، وعوامل الحرمان النفسي، والأسري، والتعليمي، والوظيفي.. إلخ، وسكتنا عن الناضجين الكبار، الذين بلغوا الأشُدّ، وخبروا الثغرات والسراديب، وامتلكوا المال والسلاح وتخطيط الأهداف والتحركات، رغم أن منا مَنْ قال الحقيقة دون أن يلتفت لدلالاتها: «التفجيرات يخططها مجرمون، وينفذها مجانين»!
ما خطب أولئك الذين اختاروا أن يُوزعوا إلى طريق الشيطان، وأن يكونوا جُندا من جنوده الأفذاذ في الإجرام؟!!
لقد سعينا - دون قصد- إلى زعزعة ثقة المجتمع في الشباب اليافع، وزعزعة ثقة الشباب اليافع فيه، ومنحنا الثقة المطلقة - دون قيود وتنقيح - لأصحاب الأشُدّ البالغين سنّ الرّشاد!!
3 - قضايا البطالة والفقر، وتحدثنا كأنما نبرر للعاطلين وللفقراء، بل كأنما نرسم لهم تفاعلاتهم النفسية السلبية التي تخبطت فيها فلسفات غاشمة كالوجودية التي لم تجد أمانها، فأفضنا في انعكاسات الفراغ على الذات، وانعكاسات ضنك العيش في الحقد على أهل البسطة في العيش على بسطتهم، وعلى السعي المتوحش للانتقام وامتلاك ما ليس في اليد، وسكتنا عن أن الفراغ نعمة مغبون فيها المسلم، والفقر ابتلاء من الله، وأنّ مجتمعنا لم يخلُ من مؤسسات وصور التكافل الاجتماعي الإسلامي الحية مهما تكن درجتها، وأنّ أفراد المجتمع هم الأساس الذي تنبني عليه المؤسسات والسلطات، ولو حرص كل فرد منا على الصدق في إصلاح نفسه بالمعروف وعَفّة يده وإزاره لما أكل جارٌ كتف جاره، ولما ملك كرسي الوظيفة غير مستحقها بالعدل، ولما أنّتْ أم عجوز رماها ابنها الثري في برارٍ بعيدة؛ إرضاء لحرية زوجة قاسية تضرب لأبنائها درسا مثالياً في العقوق!
4 - الإسلام، والمناهج الدراسية وما فيها من تحريض على الجهاد الذي دمّر به الإرهابيون شرف الإسلام والبلاد الإسلامية في أعين الآخرين.. صامتين عن أن نصرخ بأنهم، وإن احتالوا وسرقوا مصطلح «الجهاد» من أحضانه الحقيقية، فما يقومون به إجهاض أرواح بالباطل، لا أساس فيه للجهاد، صامتين عن أن نصرخ بأننا لا نستطيع أنْ نقتلع أعيننا؛ لأنها ترى الباطل باطلا، ولا نستطيع أن نفرِّغ جماجمنا؛ لأنها تفهم الإجرام إجراما، ولا نستطيع أن نهجِّر الإسلام من دمائنا؛ لأننا نطبق الإسلام إسلاما، ولا نسمي الإجرام أمنا وسلاما!
للأسف، انقضضنا على مناهجنا البريئة، وشاركَنا في قرضها عدد لا بأس به من الدخلاء، صامتين عن أن داءنا الأعفن مما احتفلنا به مفتاحا سحريا للحضارة والتقدمية، وهو الثقافة الغربية والانفتاح التام على ما هو خارج حدودنا بلا صمامات أمان تناسبنا، حتى صرنا كالإسفنج الذي يمتص كل شيء، آسن وغير آسن، ويخضّه داخله، فيعفن أكثر دون ان نتمثل حكمة الغربال، والتنقية والاختيار؛ فضعنا ونحن نصفق لأنفسنا المثقّفة! ونحن نلوك جدائد النظريات.. «البقاء للأصلح».. التي تحولت، خدمة للإمبراطورية الغربية الحالية، إلى «البقاء للأقوى» ولا ندري ما السر.. «السلطة والثورة عليها»، ونصفق ونرمي عناكبها الصغيرة للقراء العاديين (غير المثقفين!) وهي تمتص قدسية الدين الحنيف وشرف الأعراض وطاعة وليّ الأمر في غير معصية الخالق... «صورة الآخر»، ونبالغ في نفث دخان العدائية بين «الذات» و«الآخر» الذي قد يكون الأجنبي وقد يكون الجار في منطقة أخرى، وقد يكون الأخ في لحظة عدم رضى، وقد يكون الزوجة أو الأخت، لكننا - أبدا- لم نجعله الشيطان.. والأسوأ أننا نقول:
أيها المسلم، كيف تقتل أخاك المسلم؟
«هَلْ يَصِيْرُ دَمِيْ بينَ عَيْنَيْكَ ماءً؟»
ولا نفكر أن لدينا نصف الجواب، حينما قسّمنا البنيان المرصوص، وقلنا للعضو الأول: أنتَ «ذات»، وحارب من سواك، وقلنا للثاني: أنت «أخر»، وأثبت نفسك الأصل والذات، وقلنا للثالث: أنت «مهمَّش» فانتقم وكن القائد والذات...!!!
عجائب ما أعجب منها إلا أننا نترجمها بأيدينا وأمخاخنا الفذة، وننثرها كالطُّعم المطعَّم بالطاعون لبني أوطاننا، وما أكبر لذتنا في السخرية من «أسلمة العلوم» ودعاتها!
ما أكبر لذتنا في الرقص على جراحنا المتورّمة، وامتطاء صيحات العظام المتهشمة!
سبحان الله! نصدق أن النظرية عبث فكري، وأن الأدب تسلية فنية، وأن الأفلام أحلام غير منطقية، وأن الأفكار شطحات فراغ لا تهز أسسا، ولا تصدع متلاحما، ولا تفجّر شرا ودمارا!
ننسى ازدواجية الأشياء، ونظل نحفر في أدغال أقعنة الإرهاب، فلا نصل لشيء يقصم ظهر الأفعى.. نغفل عن أن المجرم هو أحرص الناس على ارتداء قناع المسالم البريء، أن اللص هو أحرص الناس على ارتداء قناع الأمين الحارس، أن الظاهر للعيان هو أحرص الناس على ارتداء قناع الخفاء و«طاقية الإخفاء»!!
ننسى أنها تبعات منهجية الشيطان «الغَرور» الذي يُسيّر جنوده هنا وهناك، ففوق المشهد عابثون يفجرون ويقتلون.. بمجرد أن ينجحوا في لفت أنظارنا إليهم وملاحقتنا لهم.. يشتغل الجند الآخرون تحت المشهد في منطقة خالية من انتباهنا.. يبثون الخمور، وفنون السقوط، والهمجية، والغوغاء اللاإنسانية.. وهكذا!
الإرهاب وجوه حقيقية للفساد، تتستر حقائقها، والآن لا يظهر لنا سوى الوجه الأم - التفجيرات الانتحارية - ليستهلك قوانا، وتحليلنا، ومعالجتنا لقشرة هذا الجرح المزورة؛ كي لا نجد ما ننتبه به إلى جرح الهشاشة في مفاهيم العلم، وأن سلامة وحياة التفكير هي الأساس لا حشو المعلومات؛ كي لا نجد ما ننتبه به إلى جرح التعاقد مع الشيطان في تدمير صورة الإسلام وبلاد الحرمين الآمنة؛ كي لا نجد ما ننتبه به إلى جرح افتراس الغيرة الشريفة من قلوب المسلمين على دينهم، ووطنهم، وأعراضهم.. ولن يكون ذلك، لن يكون ذلك، لن يكون إذا أعدنا تشكيل فهمنا للمعالجة، والتحليل، ورؤية ظواهر الأشياء وبواطنها معاً في ضوء الآفاق الحقيقية لدعوة سموِّه رعاه الله ورعانا جميعا في أمان الله!
* جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي |