قبل أيام.. افتقدت البلاد عامة، وعسير على وجه الخصوص، علماً من أعلام القضاء، لكنه باق فيما خلّف من علم وعمل على منصة القضاء، وفي دائرة الثقافة الشرعية، وأبعد من ذلك في تنمية المجتمع وتطويره.
نعم لقد رحل عن عالمنا سماحة الشيخ ابراهيم الراشد الحديثي رئيس محاكم منطقة عسير الأسبق - رحمه الله - لكنه باق بيننا بعمله وعلمه، وقد يُسَلِّم الناس بإمكانية اشتغال القاضي في دائرة الثقافة الشرعية، فدائرة القضاء لا يرد حياضها إلا المتمكن من العلوم الشرعية، لكن البعض قد يتساءل عن علاقة القاضي بتنمية المجتمع، وعلى كل حال يقوم الدليل.
فالدليل على موقع الشيخ في القضاء تلك العقود الطويلة التي اعتلى فيها المنصة قاضيا في القنفذة ثم رئيسا لمحاكم النماص ثم في منطقة عسير كلها وقد أسس مدرسة أفاد منها الكثيرون وكان نجله وتلميذه الشيخ محمد - خلفه في رئاسة محاكم عسير - نجيب هذه المدرسة بحكم الاقتراب الأكثر والمعايشة، ويكفي الفقيد في هذا الصدد ان مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز استبقاه في الخدمة بعد بلوغه سن المعاش لأنه من خيرة العلماء.
وأما الدليل على اشتغال الشيخ بالثقافة الإسلامية، فقد استعاد حنينه إلى التعليم الذي انتدبه له - في مطلع حياته - الملك المؤسس، استعاد هذا الحنين بحلقات الدرس الشرعي التي نظمها في بيته بعد ان ترجل عن منصة القضاء والتي تهافت عليها طلاب العلم من كل صوب، وكذلك مجموعة الكتب التي تشرفت مطابع مازن في أبها بإصدارها عن الشيخ ومن أهمها: الأربعين النووية - مفيد الأنام المشتمل على فضل الصلوات الخمس، العقد الثمين، وعقود اللؤلؤ والمرجان.
وأما اشتغال الشيخ في ميدان تنمية المجتمع، فها هو صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أمير المنطقة ورائد التنمية فيها يعبر بالأمس في إيجاز عن بالغ حزنه وأسفه لوفاة الشيخ مؤكداً أنه كان له بمثابة الأب، وأن الأمير (تشرف) بزمالته مدة طويلة في خدمة الدين والملك والوطن في هذه المنطقة، وفي التفاصيل يورد سموه كشاهد عيان في كتاب له صدر قبل نحو خمس سنوات حاملا ذات العنوان، يورد دور الشيخ في ثنايا فصل بعنوان «من مشكلة.. إلى عامل نمو» يتحدث فيه عن نزاع بعض القبائل على امتلاك الأراضي «كان النزاع منذ القدم، وعلى طول مدته خرج مشايخ، وقضاة، ولجان في محاولات للحل دون جدوى، فلم تسفر كل الجهود عن حل، وبقيت المشكلة عالقة ومنطقة النزاع مشلولة الحركة عن اللحاق بركب التنمية.. الأرض بيضاء والتعديات عليها من كل الأطراف، والشكاوي متبادلة ولا وقت إلا: للنزاع، والتعدي، والشكاوي.. وهكذا بقيت منطقة النزاع جدباء، بلا إعمار، ولا تنمية». ثم «وعرضت عليهم أن يقبل الجميع حلاً حيادياً عادلاً، يحكم به الشيخ ابراهيم الحديثي - رئيس محاكم عسير آنذاك - بعد ان يصل إليهم، ويدرس الموضوع بأناة وبيَّنت لهم أن قبول الحل ينزع فتيل الصراع بينهم ويحقق الخير لهم جميعاً، فوافقوا على تحكيم الشيخ بينهم، ذلك أن الشيخ ابراهيم الحديثي اكتسب احترام أهالي منطقة عسير جميعاً وتقديرهم لما يتمتع به من طيب الخلق، والنزاهة، وتحري العدالة، والبعد عن الأهواء، وبذلك لاقى قبولاً حسناً لدى الكافة.
وقبل ان يتوجه لمهمته جلست إلى الشيخ ابراهيم وتفاهمت معه على ان المصلحة تقتضي حل المشكلة لا بتبييض الأرض - كما كان يحدث سابقاً - ولكن بتوزيعها على الأهالي، فذلك ادعى للناس ان ينهضوا بأنفسهم وبمنطقتهم.
ووافقني على ذلك ثم ذهب وعاش بين القوم نحو اسبوعين، واصل اجتماعه بهم خلالهما ليل نهار، حتى وفقه الله إلى القسمة العادلة، التي ارتضاها جميع الأطراف.
وبانتهاء المشكلة.. انتشر العمران في المنطقة بسرعة عجيبة.
تغمد الله العالم الجليل الفقيد بواسع رحمته وأسكنه العلي القدير في جناته، لقاء ما قدم لدينه ومليكه ووطنه طوال حياته الحافلة بالعطاء.
|