Tuesday 13th January,200411429العددالثلاثاء 21 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أبو مدين في خميسية الجاسر عن مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي أبو مدين في خميسية الجاسر عن مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي

* الثقافة -سعيد الدحية الزهراني:
استضافت خميسية الشيخ أحمد الجاسر - رحمه الله - ضحى يوم الخميس الموافق 9/11/1424هـ الأديب الرائد عبدالفتاح أبو مدين رئيس نادي جدة الأدبي وعضو مجلس أمناء مؤسسة حمد الجاسر الخيرية، حيث ألقى محاضرة بعنوان « في شعر شوقي.. مسرحية مجنون ليلى بين الواقع والخيال».
كان ذلك في حضور رواد الخميسية وأعضاء المؤسسة بالإضافة إلى المعنيين والمتابعين للشأن التراثي والثقافي.
ومن ضمن الحضور الدكتور إبراهيم العواجي والدكتور عبدالعزيز الخويطر والدكتور أحمد الطبيب والدكتور سلطان القحطاني والأستاذ محمد القشعمي والدكتور عبدالرحمن الشبيلي وآخرون.
أبو مدين استهل محاضرته بالشكر للحاضرين والقائمين على أمر الخميسية بعدها تناول محاضرته حيث جاء فيها:
يقول الأستاذ الكبير علي أدهم :
«الروايات التاريخية ليست تاريخا خالصا، مُحققّا، يرجع إليه ويُوثق»، ولكنها مع ذلك تستمد مادتها من التاريخ، وتؤثّر بدورها في فهمنا له، وطريقتنا في عرض حوادثه، وأعظم الروايات التاريخية وأدلّها على قوة الخيال وإجادة البحث لا تُغني غناء التاريخ، ولا تقوم مقامه، وقد لا تتناول حوادثه المأثورة إلا عرضاً، وقد تُحاول أن تصف مواقف معينة، تُشبه ما ورد في التاريخ، ولكنها ليست المواقف التاريخية بنصها وفصها، وخيرها وشرها، وقد تعرضُها عرضا بلاغيا، وتُفسرها تفسيراً فنياً يلائم أهداف الرواية التاريخية، ويوافق وضعها وجوّها».
ومعنى هذا الكلام أن كاتب الرواية التاريخية لا يتقيّد بأحداث التاريخ تقيداً دقيقاً، وإنما يعيش في جوه فقط، ليرسم الإطار العام، ولعلنا لسنا مطالبين بأن يكون ملزَما كل الالتزام بهذه الأحداث، فقد يُغير في أسماء بعض الأبطال، وقد يُضيف شخصيات خيالية لم تكنْ من قبل، لتزيد في إيضاح المعاني التي يريدها.
وشوقي رحمه الله قد ألَّف مسرحيته الباقية «مجنون ليلى» فصوّر البيئة العربية البدوية في صدر الإسلام تصويرا رائعا، وأضاف من الشخصيات الخيالية حوار الشخصيات الواقعية، ما زاد الرواية الشعرية تأثيراً وجاذبية، والناقد المُنصف يرى ذلك ويشاهده متى كان مُلمّا بأحداث التاريخ العربي في مصادره المعتمدة.. ولكننا مع وضوح ذلك وضوحا بيّناً نجد النقاد يختلفون فيما بينهم حول صنيع شوقي.
ففريقٌ يؤكد أنه التزم بالواقعية دُون أن يخرج من حقائق التاريخ، وبين هؤلاء الدكتور محمد غنيمي هلال، حيث يقول في كتابه «ليلى والمجنون»: «وقد حرص الحرص كله أن ينقل لنا الروايات المختلفة التي نقرأها في كُتب الأدب». ثم يقول بعد ذلك: «ويتجلَّى لنا كيف كان شوقي خاضعاً لما رُوي عن قيس تطبيقاً منه لما يدينُ به بين مراعاة حوادث التاريخ تلك المراعاة التي تأثّر فيها بأصحاب المذهب الواقعي من الفرنسيين».
أما الفريق الآخر فيرى أن شوقي تجَاوزَ حوادث التاريخ في مواقف كثيرة، ولم يتقيد بما دوَّنه المؤرخون عنه، وكان عليه أن يلتزم بهذه الأحداث كما وردتْ في مصادرها المعروفة. ومن هؤلاء الأستاذ توفيق أحمد البكري حيث يقول بعد أن تحدث عن بعض مواقف الرواية: «والمسرحية سواء اقْتَبَستْ فكرتها وشخوصها من «الأساطير» أو التاريخ، أو من أي موضوع اجتماعي أو سياسي، وجب أن تظل شُخُوصُها كما هي دون تبديل في الشخوص أو التاريخ، أو تشويه الأسانيد، إلا إذا لزم ذلك، وقد يُمكن التجاوز عن عثراتٍ صغيرة في شُخوص شوقي؛ فقد جَرَفَه وأَلهاه عن دقة حبكها حَداثةُ عهده بالتأليف المسرحي».
ومعنى هذا أن الأستاذ البكري يخالفُ رأي الأستاذ على أدهم الذي أشرْنا إليه آنفاً، إذ يرى أنّ شخصيات المسرحية التاريخية يجب أن تظل كما هي، دُون تبديل في الشخوص أو التاريخ أو تَشويه الأسانيد، هذا من ناحية، كما يرى أن شوقي قد جَرفه التيار وألهاهُ فوقع في عثراتٍ كثيرة لم يتقيّد فيها بأحداث التاريخ.
نحن إذاً أمام رأيين مُختلفين، رأي الدكتور محمد غنيمي هلال، الذي يرى أن أمير الشعراء قد التزم التزاما واقعياً بأحداث التاريخ، ورأي الأستاذ توفيق أحمد البكري، الذي يَرى أنه تجاوز هذه الأحداث. وقد صدرت دراسات جامعية تتردَّدُ في الحكم حول هذه الناحية، فَباحثٌ يرى أن شوقي قد التزم، وباحثٌ يرى أنه لم يلتزم، وكلٌّ يستند إلى رأي سابق قاله ناقدٌ من قبل، وهذا عجيب جدا، لأن المسرحية في أيدينا، وكُتُب التاريخ في أيدينا، وعَلينا بصدد الحكم في هذه الناحية أن نرجع إلى المسرحية وإلى كُتُب التاريخ، وهذا ما حَاوَلته في هذه الوقفة، وقد وجَدتُ أن أمير الشعراء قد التزم بالأحداث في كثيرٍ من المواقف، وخالفها في بعض المواقف، فَرواية الأغاني بالجزء الثاني تُسيطر على شوقي سيطرةً تكاد تكون تامة في أكثر المواقف، وهُنا يكون شوقي موافقاً لأحداث التاريخ، ولكنّه تجاوز الأغاني في مواقف أخرى سأعرض لها بشيء من تفصيل.
أما القصة في مضمونها التاريخي فمؤداها أن قيس بن الملوح أحبّ ليلى العامرية، وقد بادلته هذا الحب واعترفت به، ولكنَّ أمرها قد شاع، فرأَى والدها أن يرفض زواج قيس بها، جرياً على عادة العرب حين يأبون أن يقترن الحبيبُ بحبيبته كي لا يرجُف بهما الناس، ثم زوجها إلى رجل من ثقيف، فَحِزن قيسٌ حُزنا شديدا أَفَقده عقله؛ حتى عُرف بمجنون ليلى، فكان يهيم في الصحراء عاريا، ولا يلبس ثوباً على جسده، وقد ألِفَتْه الوحوش، وجعلت تتقرب إليه ولا تنفر منه، كما أن الشفاعات الكثيرة التي تقدم بها الأمراء إلى والد ليلى قد قُوبلت بالرفض التام، وكانت العاقبة أن مات قيس فبكتْه ليلى».
هذا جوهر القصة، وإذا أردنا أن نتحدث عما وافق فيه شوقي أحداث التاريخ، فإننا نضطر إلى نقل معظم المسرحية، وهذا غيرُ معقول، ولكننا سنتحدث عما خالف فيه شوقي هذه الأحداث، لا لنعدّ ذلك مأخذا عليه كما فعل الأستاذ توفيق أحمد البكري، وهو باحثٌ عربي كبير من باحثي السودان، بل لنقول: إن شوقي تمتّع بالحرية الفنية التي تُتيح للقاص أن يضيف وأن يحذف كي يرسم الجو العام للقصة، كما أشار إلى ذلك الأستاذ علي أدهم، وبهذا المنحى العملي نرد على الذين قالوا: إن أمير الشعراء قد التزم بالنص التزاما واقعياً وفي طليعتهم الدكتور محمد غنيمي هلال.
وما نحسب أن ما ظنه بعضهم عيباً أخذه على شوقي في هذه المسرحية من ابتداعه شخصيات خيالية أضافها إلى الشخصيات التاريخية الحقيقية لهذه القصة الرومانسية التاريخية، إلا أنه عمل حميد يحسب له في معايير الفن الأصيل، وليس عليه، ذلك أن جميع الشعراء الذين مارسوا الكتابة المسرحية عن شخصيات تاريخية مرموقة ومعروفة من مختلفي الأمم والشعوب الأوروبية ابتدعوا شخصيات خيالية كتلك التي ابتدعها شوقي في مسرحيته، ليضيفوها إلى الشخصيات التاريخية الحقيقية، ولعلنا واجدون ذلك في مسرحيات شكسبير أمير الشعر الإنجليزي التي كتبها عن كليو باترا ويوليوس قيصر والملك إدوارد وريتشارد الخامس، وكذلك عند الشاعر الفرنسي راسين وسواهما من عمالقة الشعر المسرحي العالمي. بل إن بعض الدارسين يذهب إلى القول بأن الالتزام الحرفي الصارم بالشخصيات التاريخية موضوعي الحدث في المسرحية هو من صميم عمل المؤرخ، لا يدخل في معايير الإبداع عند الشاعر المسرحي.
وسأحاول هنا أن أبين بعض المواقف التي خالف فيها شوقي المأثور من الروايات التاريخية، معلناً مقدار توفيقه في العمل المسرحي مخالفةً لا مُوافقة.
ففي المشهد الأول من الفصل الأول؛ نجد شوقي قد اختار شخصيةً ليس لها علاقة بالمجنون وليلاه، وهي شخصية قيس بن ذريح عاشق لُبنى المشهورة، وصحائفُ التاريخ تؤكد أن القَيْسيْن - وإن عاشا في عصر واحد - لم يتقابلا، ولم يعرف أحدهما الآخر معرفة شخصية، ولكن شوقي جاء بابن ذريح من المدينة ليُجلسه في خيمة ليلى بنجد، وليجعله مدار سمر حلو يدور حول العشق والبادية والحضر.
وأنا أرى أن شوقي كان موفقاً في هذا، فقيسُ بن ذريح بحياته الغرامية المعروفة يمثّل قيس بن الملوح، وكأنّهما في مأساة الغرام الدامية قاسمٌ مشترك.. ولقد رحبت ليلى بقيس ترحيباً حاراً، تجلّى في قول شوقي على لسانها هي وبعض صواحبها:


أيا ابنَ ذُريح لقينا الغمام
وطافت بنا نَفحاتُ النبي

ويمضي سؤالٌ وجواب في سمر حلو مستعذب؛ حتى يحين حديثُ قيس بن الملوّح، فيحاول ابن ذريح أن يجذب قلبَ ليلى، فهو يقول مخاطبا لها:


أرسلني قيسٌ فلو أخبرتني
متى متى بأمرِ قيس يُعتنى؟
بتنا نخافُ أن يَجِل خَطبه
وتبلغَ البلوى بقيسٍ المَدى
وقيسُ يا ليلى وإن لم تجهلي
زينُ الشباب وابن سيدِ الحمى
لم ندرِ في حيّك أو حَيّه
فتىً حكاه نسباً ولا غنى
ولا جمالاً! وَهُنا «يا ليلُ» ما
ترين أنتِ لا الذي نحن نرى

وهنا تظهر ليلى غاضبة فتقول: «فيم هذا الكلامُ يا بن ذريح؟»
فيرد عليها ابن ذريح قائلاً: «اتقي الله واقصدي في التَجنّي!
يقول الأستاذ توفيق أحمد البكري في بحثه عن شوقي: «ومن الأغلاط التاريخية في الرواية حادثةُ الحسين بن علي، الذي جاء شوقي بركبه في ثَرى نجْد، لأنّ الحسين قد قتل في أوّل خلافة يزيد بن معاوية في المحرّم لسنة 61هـ، وابنُ عوف أو نوْفل بن مُساحق تولّيا الأمر سنة 64هـ، فلم يكن الحيسن إذاً حيّا يُحدَى ركْبه، بل مات قبل الحادثة.. وكان لشوقي أن يجيء بأيّ رجل من ذرّية الحسين أو الحسن ابني علي إذ كان لهم من تَعظيم أو تبْجيل الناس ما للحسين والحسن رضي الله عنهما، ولكنّ شوقي أراد أن يُصورّ العراكَ السياسي العنيف القائم آنذاك بين آل البيت والأمويين، وأن يُعطي صورة واضحة المعالم لما كانت عليه الحال السياسية والتحزب.
وبعد:
فمسرحيةُ «مجنون ليلى» في رأى كثير من النّقاد هي أبرعُ مسرحيات شوقي الشعرية، لأنها تمس عاطفةً حية تملأ قلوب الناس والمحرومين من العُشاق حين يقرأونها، فيجدون مشاعرهم مسطورة في ثنايا الفصول والمشاهد، وحَسْبُ شوقي أنه أول مَن أدْخل المسرح الشعريّ الحقيقي في أدبنا الحديث.
وقبل أن أختم هذا الحديث، فإني أشير إلى أن مسرحية «مجنون ليلى» هي المسرحية الوحيدة التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية، وقد مضى على ذلك خمسون سنة، وقد ظهرت لها ترجمة إيطالية في الخمسينيات، كما قال الدكتور صالح جواد الطعمة في كتابه: «في العلاقات الأدبية بين العرب والغرب.. وثَمَّ محاولة للسيدة «زاسكين» لترجمة مسرحية «كيلو باترا» إلى الإنجليزية، كما ذكر «لاندو» في كتابه عن المسرح والسينما عند العرب، لكنها لم تلق اهتماما ذا قيمة، ولم يعلق عليها إلا عدد قليل من المعنيين، كالمستشرق «جب»، وأحد كتَّاب مجلة العالم الإسلامي في الولايات المتحدة أما الكاتب الإنجليزي «بربور» فلم يذكر في دراسته عن المسرح العربي في مصر سوى قيام الأستاذ «آربري» بترجمة «مجنون ليلى» نشرها في مصر، وقد خصص صفحات للمسرحية، واستشهد ببعض مقاطع منها.
والسلام عليكم ورحمة الله..


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved