أصدقكم القول أنني حين أتحدث عن قضايا مصيرية كالمناهج والجهاد والولاء والبراء وقضايا الفكر والسياسة ينتابني خوف من القول وخيفة من الصمت، فالكلمة مسؤولية، يقولها الإنسان في سخط الله، لا يلقي لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في النار، وكم يقولها البعض عن قضايا وطنه يريد بها عرض الحياة الدنيا، فتطفئ وضاءة الوجه، وتضر بالمصلحة العامة.
ولقد تكشفت المشاهد عن انتهازيين ومزايدين وشكوكيين حاروا غثاء بعد سطوع وتألق، ولو عرف المترددون أو المجازفون خطورة السكوت عن الحق أو القول بغير علم، لتمنوا أنهم ماتوا قبل هذا، وكانوا نسياً منسياً.
وحين أتحدث عن أي قضية مصيرية سلباً أو إيجاباً أصبح كالقاضي لا يرضى عنه إلا المستفيد من الحكم، وعزائي أن ما أقوله دافعه المحبة والشفقة، وكل متحدث ناصح يرجو ألا يتلبسه رياء ولا سمعة، وألا يقول ما يقول لغرض دنيء أو عرض زائل، وألا يقول بغير علم أو تجربة، ومصائب الأمة من متقولين أو وصوليين، وإذا بدرت من الناصحين آراء غير موفقة فإن من حقهم على المقتدرين ألا يسكتوا عن إرشاد الضال، وألا يسيئوا الظن بالمخطئ ابتداء، وإذا تردد المقتدرون نزل بساحة القوم من لا يحسن الورود ولا الصدور، وذلك ما نراه، وما نسمعه، وما نضيق به.
والبلاد في ظل الظروف العصيبة محلياً وعربياً وإسلامياً ودولياً أحوج ما تكون إلى جهود أبنائها من العلماء والخبراء والمجربين وفقهاء الواقع، ممن يحملون هم أمتهم، ويدرؤون عنها عوادي الزمن، ويعتمدون السكينة والأناة، ولا أحسب أحداً معذوراً على السكوت عن الحق، ولا محموداً على استغلال الظروف لأغراض دنيئة، مادامت الأحوال كما نرى ونسمع عبر وسائل الإعلام العربي والعالمي.
وهل عاقل يشك بأن وراء الأكمة ما وراءها؟ وحملة الأقلام الناصحون في هذه الظروف المخيفة يمارسون « جهاد الدفع» المتعينة فرضيته على كل مقتدر، وليس الأمر من باب «جهاد الطلب» الذي يكون على الكفاية والاختيار.
والإشكالية التي تشغل الرأي العام، وتعتورها الأقلام، وتسلقها الألسنة الحداد بشكل تناحري إشكالية «المناهج» فكل طائفة ترى مالا تراه الطائفة الأخرى.
والناس شركاء في التعليم، لأن أكثر من على أرض البلاد في سن الطلب، وهم بين متلق للتعليم أو معلم له، وكل واحد من أبناء البلاد: إما دارساً أو مدرساً، أو أن له ولداً أو بنتاً أو أخاً أو أختاً، فالتعليم كالهواء يمس الناس كافة، ولكنه مع هذا لم يكن المؤثر الوحيد في السلوك أو في التفكير، حتى لقد عده البعض من المؤثرات التقليدية.
فثورة الإعلام والمعلومات والاتصالات وحمى «العولمة» كادت تنفرد بالتأثير، وحين تضطلع المناهج بمهمة التربية والتعليم، ثم لا تكون مخرجاتها مستجيبة لطلب السوق ولا متمثلة لأخلاقيات الحضارة، يكون هناك خلل في المهمتين، وما لا خلاف حوله أن المخرجات دون المؤمل، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر، دونما اتهام أو تخوف.
ولأن قضية التعليم أصبحت من أهم القضايا الوطنية، والأكثر تداولاً، فقد تقحم سوحها العالم ومن دونه، والمتشدد والمتسامح، والمتحدثن والمتترثن، والمتعلمن والمتعولم، والمتفرنس والمتأمرك، و«الراديكالي» و«الليبرالي» و«الفرانكفوني» والمذهبي والطائفي والانتهازي والمزايد، وهذه الضجة الكبرى تنطوي على أجنة سوية أو مشوهة، ومن حق كل عاقل أن يفكر، وأن يقدر، وأن يبدي تحفظه وتساؤله، فذلك حق مشروع، ولكن تجب الاستبانة، وتفادي سوء الظن، والتفريق بين الحقائق والشائعات، فإلقاء الكلام على عواهنه حول القضايا المصيرية قد يعيق عمليات الإصلاح والتطوير، ومما يزيد مشروعية التحري والتساؤل ما يشاع في الأوساط العالمية، من أن المناهج التعليمية في المملكة تفرخ الإرهاب، وأن هواجس التغيير والتطوير تطال الثوابت الدينية، ولعلنا نستعيد مبادرة «باول» في 12/12/2002م القائمة على أربعة مبادئ منها «الإصلاحات التعليمية» فما المقصود بها، أيريد العلمنة أم العلمية؟
وفي ظل هذه الظروف المدلهمة يشرع الخوف والتساؤل، وحسناً فعل المسؤول بالإعلان عن أسماء اللجنة المسؤولة عن تطوير المناهج، لقد فتح هذا الإعلان أبواباً من الآمال الباسمة والاطمئنان الواثق، والتفاؤل العريض، فالناس قبل هذا محتقنون، وحق لهم الاحتقان، فما يشاع عن مناهجهم من قول غير موثق، يبعث على الارتياب، والعامة لها أمثالها الناطقة بالحكمة كقولهم:«إذا قيل رأسك ما هو عليك رحت تلمسه»، فنحن وإن كنا واثقين بحملة المسؤولية مطمئنين بالتزامهم بمقتضيات سياسة التعليم المعلنة، إلا أن كثيراً مما يدور على الألسن وعبر الوسائط الإعلامية من أبناء البلاد أنفسهم، ومن غيرهم، يبعث على الخوف المشروع، ولقد سبقنا« أبو الأنبياء» بطلب الرؤية للاطمئنان :«أرني كيف تحيي الموتى»، وليس على أحد من بأس أن يقول :« أروني كيف تطورون المناهج»، وواجب المسؤولين مواجهة الرأي العام، وبسط أهداف التغيير وأمدائه، وعدم الامتعاض من الأسئلة الملحة، ذلك أن قرناء السوء يخوفون الخليين، ويفترون الكذب، ويطلقون الاتهامات جزافاً، ويحسنون صنع الحرب النفسية، والمسؤول المطمئن إلى مشروعية فعله، يتصور أن الناس جميعاً يعرفون ما يعرف، ومن ثم يكل الناس على ما يتصور بلوغه إليهم.
وإذ كان لإعلان أسماء لجنة المناهج أثره الحسن على كل من لقيت، فإنه يحسن أن تجرى لقاءات متتابعة عبر وسائل الإعلام مع الأعضاء، يتحدثون فيها عن وجوه التطوير والتغيير، وبخاصة ما يتعلق منها بالعلوم الشرعية، ليحبطوا دعاوي المرجفين الذين يربطون عملية التغيير بما يروجه الإعلام الغربي، وليكشفوا عوار ما يتلقفه الفارغون الذين جبلوا على النوال وعدم المبادرة، وهم ألد الخصام، ولو أن المعنين بجلد المناهج عادوا لما قبل الحادي عشر من سبتمبر، وقرؤوا ما قالوه بألسنتهم عن العملية التعليمية، وما كتبوه بأقلامهم عن ضعف المناهج وعدم تأثيرها تعليمياً وتربوياً، ولو أنهم قرؤوا التقرير الذي أعده «سعد الدين إبراهيم» من قبل وأصدرته «مؤسسة ابن خلدون» عن التعليم العربي، لوجدوا أن ما قالوه من قبل، وما قرؤوه، لا يأتي على ذكر ما يتداولونه اليوم، ولم يقل النقاد، ولم تقل المؤسسات الراصدة بأن المناهج تصنع إرهاباً، علماً بأن «مؤسسة ابن خلدون» مظنة العمالة والإثارة والتشكيك.
فمن الذي صنع هذه الضجة؟ وإذا كان في المناهج ما يوحي بالعموميات والاحتماليات فإن من أولى مهمات اللجنة تقييد المطلق، وتحديد المعمم، وتفادي الحدِّيات الصارمة.
وإن كان ثمة تحفظ فإنه على وقوعات فردية أو آنية تمارس على هامش المناهج أو في ظلها من مناشط، ربما وجهت إليها ظروف استثنائية، وهذه تمت تحت بصر الجميع وسمعهم، ثم إن الطفرة التي اجتاحت البلاد قلبت الأوضاع رأساً على عقب، وغيرت المفاهيم والمواقف، ومناهج التعليم آخر من يعلم، ولأن اللغط يقوم على الاهتياج الأعزل فإنه لا يفرق بين المناهج والمقررات والتربية والتعليم وطرق التدريس والوسائل والأزمنة والأمكنة، ولا يحسب لضعف المهارات ولا لقياس الجودة ومقاييس الأداء والضعف اللغوي والحشوية والمنهج الحواري أي حساب.
وسواء قال الغرب أو لم يقل فإن كل مفردات التعليم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر والتطوير، سواء منها ما يخص العلوم البحتة أو الإنسانية أو الثقافة الإسلامية، فلكل زمان أولوياته، والإسلام يضع كل الاعتبار لفقه الأولويات، فنزع قضية وإنزال أخرى، لا يعني إلغاء الأولى أو التخلي عنها، وإنما يعني أنها لم تكن الأهم في السياق القائم، ولقد وجهنا الرسول المعلم عملياً إلى فتيا المناسبات، وإجابته عن طلب «التوصية» وعن «أي الأعمال أفضل» خير دليل.
ومما يساعد على تصعيد الشعور بالخوف ما يقترفه البعض بحق مقررات العلوم الشرعية، وما يلمحون إليه من رغبات ليست على شيء من الحق، وفوق ذلك فإن هناك مبالغات غير مبررة، تنحي باللائمة على المقرر، وعلى المعلم، وعلى المشرفين على النشاطات الطلابية، ومع أن في كل ذلك ما يحتاج إلى إصلاح، إلا أنه لا تجوز المزايدة وانتهاز الفرص وتحريف الكلم عن مواضعه، ومن الطبعي أن تبدو في المقررات كلمات حادة أو عبارات حمّالة، ومن الطبعي أيضاً أن يكون من المعلمين من لا يحسنون التأويل، ولا التوصل السليم، ومن الطبيعي أن يتطوع متشددون في النشاط الطلابي فيوغلون في الدين بغير رفق، كل ذلك ممكن، وكل ذلك متوقع، ولكن الوقوعات الفردية لا يمكن أن تجعل سمة عامة كل شيء، ولا يمكن أن تحفز على اتهام مفردات التعليم ومحاكمتها، فكل ذلك لا يجوز تضخيمه لإدانة المناهج والمعلمين والوزارة من ورائهم، وإذا كنا نسلم بوجود نقص أو تقصير في العملية التعليمية، ونحن مسلمون ولا شك، فإننا نجد في المقابل مزايدين يطلقون الاتهام ليسجلوا لأنفسهم مواقف زائفة، ولو طلبت منهم البينة لسقط في أيديهم، ومثل هذه المزايدات تثير الرأي العام.
لقد قرأت وسمعت حملات جائرة لن تزيد الأمر إلا تعقيداً، وكل مجازفة في الاتهام تولد مجازفة في التبرئة، وفيما بينهما تضيع الحقيقة، وعمليات التطوير جزء من العملية التعليمية، والمسؤولون عن المناهج يمارسون ذلك منذ أمد بعيد، وما من أحد أبدى تخوفه، غير أن الظروف الاستثنائية عمقت الخوف. فالوزارة بعمليات التطوير والمراجعة تمارس شطراً من مسؤوليتها، ولديها أجهزتها المسؤولة عن تطوير المناهج، ولم يثر فعلُها أي تساؤل، فالقائمون عليها أهل للمسؤولية والثقة، ومصائب الأمة تكمن في تقحم الجهلة المتطرفين من الطرفين، وفي الإمعان في تسييس الدين والتعليم وشؤون الحياة، فالسياسة ترتبط بالمصالح التي لا تدوم، فيما تقوم القضايا الإسلامية والتربوية على الثبات والمبدئية، وفوق كل ذلك فإن هناك خلطاً عجيباً بين الثوابت والمتغيرات، والتعليم والتربية، فالعلم الخالص صناعة يجب أن يراعى فيها العرض والطلب، وحاجة السوق، ومتطلبات التنمية، فيما تتجه التربية الى تنمية المهارات وتأصيل القيم وتهذيب الأخلاق وإظهار الدين، وتثبيت معالم الحضارة، وهذا ما يعرف ب «أسلمة المناهج»، والأسلمة لا تعني تغيير القوانين العلمية أو التدخل في السنن الكونية، أو فرادة المناهج والطرق، وإنما تربط المكتسب بالحضارة وتصطبغ بها.
والتركيز على تغيير المناهج، والقول بأن الإصلاح يبدأ منها، ووضع البيض كله في هذه السلة يعد من الاطلاقات المعممة، فالمقررات كتب ورقية، والرهان على الحذف والإضافة رهان لن يبلغ شأوه، وإذ تكون الإشكالية أوزاعاً بين المنهج، والمقرر، والمدرس، وطرق التدريس وكافة الوسائل والمباني فإن علينا ألا نراهن على نزع صفحة وإحلال أخرى، وعلينا ألا نسلم بأن مناهجنا تصنع الإرهاب، ولا أنها دون غيرها من المناهج العربية، ولا أن تكون رغبتنا في التغيير من أجل تجفيف مستنقعات الغلو والتطرف، الغلو والتطرف والإرهاب لها مصادرها التي يعرفها أولو الدراية بخبايا السياسة، والذين استثمروا الأحداث العالمية للضغط على الشعوب المسلمة للدخول في «العولمة» كافة يزيدون في احتقان الرأي العام ويهيئون لاشتعال المقاومة والإرهاب، ومن الخير للبلاد والعباد أن يكف المتطرفون من كل الفئات عن المزايدات وتسجيل المواقف، وأن تقوم الوسطية في كل شيء، بحيث لا يكون تطرف إسلامي، ولا تطرف علماني، ولا مزايدات طائفية أو مذهبية، مع الكف التام عن تداول ما يقوله الغرب حول مصادر الإرهاب، ذلك أنه ناتج أوضاع عالمية، يعرفها حذاق السياسة، والإحالة إلى المناهج وحدها حيلة لا ينخدع بها إلا الخب، وحين نبرئ مناهجنا من صنع الإرهاب، وتبني التطرف، فليس معنى هذا أن نصر على سلامتها والإبقاء عليها، ولا أن ندعي قدسيتها، وتجريم المساس بها، إنها صناعة بشرية، وكل صناعة بشرية لا تكتسب الثبات، ولا تسمو فوق المساءلة، وحين نباشر إصلاح المناهج أو تطويرها أو تعديلها أو تصحيحها تحت طائلة اتهامها بصنع الإرهاب، نقع في الخطأ، أو قل نستمر فيه، وقد تلهينا الأوهام عما يجب ان تمتد اليه يد الإصلاح، المدرس والوسائل والمباني وطرق التدريس وكل مفردات العملية التعليمية بحاجة إلى أن نتعهدها بالتطوير، ولقد سمعت في اللقاء الثاني للحوار الوطني كلمات لاذعة، لانطوائها على تخوف مثل «التدريس مهنة من لا مهنة له» و«البلاد ورشة لتدريب الوافدين» و«التعليم في واد والتنمية في آخر».
وعتبي على الذين يتصورون أن الاصلاح يقتصر على مواد «العلوم الشرعية» وحسب، وعلى الذين يتصورون أن المناهج هي الصانع الوحيد للإنسان ولفكره، وعلى الذين يغفلون أو يتغافلون عن التقصير الحقيقي، وحين لا أرى من بأس في إخضاع «العلوم الشرعية» كما العلوم الإنسانية، وكما العلوم البحتة أو التجريبية أو الرياضية لعامل الأولويات، فإنني أرى البأس كله في ربط التغيير بالأحداث، أو الخنوع للاتهامات، والقبول الطوعي لها، أو الالتفات إلى عشاق الأضواء والمشتغلين في بؤر التوتر والمتعمدين لخلط الأوراق، وإذا أراد الله بالأمة خيراً حفز علماءها وخبراءها ومتخصصيها وقادتها لإعادة النظر في كل شيء، عند كل نازلة، إذ كلما ألمت بالأمة نازلة أو قامت حاجة استدعوا من نصوص الشريعة أو تجارب الحضارات ما يصلح لمواجهتها، فإذا نزلت بساحتهم أخرى شغلوا بما يناسبها، وتعمد إرجاء قضية وتقديم أخرى لا يعد خطيئة ولا تقصيراً بحق الدين، والنفور الكلي للتفقه في الدين إضاعة لمطالب الحياة، فالمتعلمون لا يراد منهم أن يكونوا أهل ذكر وإنذار وإفتاء، وإنما عليهم أن يتعلموا من الدين ما هم بحاجة إليه، مما يتعلق بالأخلاقيات والمعاملات والعبادات، وما سوى ذلك عن عويص المعارف الشرعية يترك للمتخصصين الذين يرجع إليهم في الفتيا وغيرها، ومن كلمات الأصوليين : «ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب» وهذه القاعدة لو وعينا مقتضاها لعرفنا ما نحن بحاجة إليه من كل شيء، ولكيلا نصعد الخلاف يجب أن نعرف من نكون، وما طاقتنا، وما نحن بحاجة إليه؟ وليس بمقدور السياسة التعليمية أن تستجيب لكل متمذهب، ولا لكل متذوق، ولا لكل متلق لركبان المستجدات، ولقد قرأت لمعالي الأخ وزير التربية والتعليم في 18/11/1424هـ «الجزيرة ص3» ما نسب إليه: «فنحن أصحاب دعوة ورسالة سامية ترفض التطرف والغلو بالقدر الذي نرفض فيه الانحلال»، وتلك كلمة متوازنة، وضابط لكل تغيير.
|