منذ ان اطلق البرت آينشتاين نظريته الشهيرة النسبية عام 1905 والكثير من المسلمَّات تتهاوى أمامها، ليس فقط في علم الفيزياء والقياسات الهندسية، بل حتى في علم الاجتماع والعلاقات الاجتماعية والأساليب المنطقية حيث لم يعد هناك شيء اسمه الحقيقة المطلقة وبالتالي لم يعد هناك من يملك تلك الحقيقة. بل إن الأمر أصبح نسبياً، فما هو حقيقة عند شخص ما أو في مكان ما قديكون غير ذلك عن شخص آخر او في مكان آخر، تماما كما لم يعد هناك حار وبارد، بل درجات حرارة ترتفع وتنخفض نسبياً.
ومن يدعي انه يملك الحقيقة المطلقة في أمر ما، فإن ذلك يعني بالضرورة ان الطرف الآخر او الفكر الآخر هو صفر، والصفر في الحساب يعني العدم، وأي عدد يضرب به فنتيجته حتماً هي الصفر.
كان المنطق القديم ومن يتعاملون به في وقتنا الحالي هو احتكار الحقيقة واعتبار أنها واحدة لا تتعدد، وبالتالي فإنه إذا امتلكها فريق فإن الفريق الآخر قد خلا منها تماماً.
يقول شيلر في وصف المنطق القديم (إن الحقيقة في ضوء المنطق المطلق واحدة والآراء يجب ان تكون متفقة، فأنت إما أن تكون مع الحقيقة أو ضدها.. فإذا كنت ضدها فأنت هالك أما إذا كنت معها فليس لأحد ان يجرؤ على مناقضتك، إنك محق إذا غضبت على أولئك الذين يجادلون في الحقيقة..).
من هنا يتبين لنا سبب من أسباب التعصب في الآراء والتطرف في الافعال، فالفريق الذي يفكر بهذا الاسلوب وبهذا المنطق يرى أنه يملك هذه الحقيقة ويجادل فيها بل ويقاتل عنها، وهو يظن انه بذلك يتبع الحق ويبحث عنه، وانه توصل إلى هذه الحقيقة بفكر متحرر من القيود والعصبيات وشيء من الموروثات، وهو بذلك يغالط نفسه إذ إنه ليس كذلك، بل هو محصور داخل اطار فكري نسجه له الزمن والإلف والسعادة وهو لا يكاد يخرج منه في بحثه للأمور ومناقشته للمستجدات والمحدثات.
ولذلك فالبحث العلمي لا يمكن ان يتم والباحث لا يمكن أن ينجح في بحثه هذا الا اذا تحرر تماماً من هذا الغلاف او الإطار وإلا فإن نتيجة البحث تكون قد حسمت قبل ان تبدأ.
يقول تعالى: {فّإنَّهّا لا تّعًمّى الأّبًصّارٍ وّلّكٌن تّعًمّى القٍلٍوبٍ الّتٌي فٌي الصٍَدٍورٌ} والعلم الحديث اكتشف ان العقل البشري مغلف بغلاف سميك لا تنفذ إليه الأدلة والبراهين إلا من خلال نطاق محدود جدا وهذا النطاق مؤلف من تقاليد البيئة التي ينشأ فيها الإنسان في الغالب.
إذن فهذا الفكر يعتمد أساساً على ما كان يعتقده المناطقة القدماء في ان الحقيقة هي واحدة وأنها معلقة في الفراغ، وأنها بذلك ذات وجه واحد لا يراها الا من رأي ذلك الوجه.
إن المنطق الحديث قد نسخ هذا المبدأ فهو يرى بأن الحق لا يمكن لأحد ان يحتكره.. فهو متعدد الأوجه كل ينظر اليه من جانبه الخاص وهو لا يدري أن له أوجهاً أخرى تماما كالهرم ذي الأوجه المتعددة.ولنا لقاء مع صورة الأشياء ومادتها.
|