فقدت منطقة عسير أحد مواطنيها الأوفياء، القاضي إبراهيم بن راشد الحديثي غفر الله له، ولا نملك سوى التسليم بقضاء الله وقدره، فله ما أخذ وحمدا لله على قضائه، ثم إن العزاء للوطن في هذا الفقيد. فلقد كان هذا الرجل من بناة التأسيس للقضاء الشرعي في منطقة عسير منذ قيام الكيان السعودي ومنذ ما يزيد على نصف قرن، كان تواجده في النماص، القنفذة، ثم في أبها العاصمة الإدارية، قاضيا ثم رئيس المحاكم.
هذا هو عمله الرسمي، أما مسار حياته وفي أرجاء الوطن وفي مسقط رأسه في القصيم هي من سمات ما يغبط عليه الرجل، أما مسارات الإحسان للفقراء فهذه له عند الله سر ووقاء. لقد فعل الشيخ الحديثي أفعالاً في دوره المجتمعي في نهج الصلح والإصلاح ليس بين المتقاضين بل بين بقية الناس، رحم الله أبا محمد فقد انجب بنين وحفدة، منهم القاضي والإداري والضابط غيره، وهم بحمد الله مواطنون عسيريون، سعوديون لهم في قامة مجد خدمة الدين والوطن والدولة هامة وقامة، ومن حقهم في الوطن الذكر والشكر.
لقد كان إبراهيم الحديثي قريبا من الناس في الإدارة والأسواق، طري اللسان بالذكر والحمد حتى أنه قد داعبه أحد الناس الظرفاء قائلاً: ياشيخ أنت المتحمد قبل اكل العشاء؟؟ وما كانت البسمة تغادر محياه، ثم هو لطيف المعشر ليس فيه تجهم ولا عبوس بعض القضاة وبعض طلبة العلم الشرعي والوعاظ! يفتي للناس ويهون عليهم بعض ما يحملون من هموم الخوف من الوقوع في الخطأ، كان رجلا حاجا كل عام مقيما طوال شهر رمضان في الحرم المكي، متواضعاً في ملبسه ومأكله ومشربه ومركبه، هاشا باشا، متواضعا في غير مذلة، معتزاً في غير غمط للحق، حججت معه قبل بضع سنين برفقة ابنه صديق العمر رجل الأعمال عبدالله، اسبغ الله عليه الصحة والعافية، فكانت خيمته ملتقى للطعام والدرس والوعظ السهل اليسير، والإفتاء في الحج، كان ديدنه كما كان ديدن إمام دعوة التوحيد رسول الله عليه الصلاة والسلام: افعل ولا حرج! كنت أشفق عليه وسنه من كثرة المتحلقين لطلب الفتيا! وأتولى إجابة بعض السائلين في أمور الحج، ويسمع غفر الله له، مداعباً لي: أحسنت يا ولدي أثابك الله، وكنت أحيل ما لا علم لي به إلى ابنه القاضي محمد الذي له من سمات الخير والصلاح مثلما لوالده وكذلك لأخيه القاضي سليمان.
إن حزن روابي عسير وبطاح مكة كبيراً على فقد هذا الرجل العلم، ولكن العزاء فيما خلف من علم وتركة وذكريات، لعلي أنوب عنه في الوصية لبناته وبنيه صليبة وعشيرة أن ينشروا ما له من كتب ومذكرات أو أن يقوم ابنه القاضي محمد الذي كان الظل لأبيه بفعل هذا المطلب الفكري.
لقد عاش الرجل عاملا وساكنا في أبها نصف قرن وله مصاهرات متعددة ولا أخال إلا أن في الخؤولة رماحاً، إن تناسى أو تشاغل البنون عن إخراج زكاة علم والدهم. فهو قد عاش بدايات العمل والتنقل في ظل ظروف قاسية وعيشة ضنكة وأحوال فقر ودهر ودرب وعر، لكن ديدن الحب والوئام وعيش العناء وان كان بالكفاف.
لقد فقدنا رجلا، عالما ورعا، له محبة، ولا أعلم أن أحداً قد شكا منه طيلة عمله في القضاء، البقاء لله والعزاء للوطن، رحم الله إبراهيم بن راشد الحديثي.
{انا لله وانا اليه راجعون}
|