ألا ترون بأنَّ هناك كمَّاً وافراً من المثالية المنفصلة عن واقعها، يتخلل تلك الطروحات التي تطالب بأن يكون الحوار الوطني معلنا ومفتوحاً وبمشاركة الجميع ابتداء من الأفراد البسطاء إلى النخب؟؟
الآن في الدول التي تقدم حكم الأغلبية (الديمقراطية) كواجهة أولى لها والتي عاشت تلك الديمقراطية قرونا طويلة تنظيراً وممارسة، وعلى الرغم من هذا فإننا نسمع أيام الانتخابات الغربية مقولة يتداولها الجميع كتعريف للديمقراطية على كونها (أحد عشر غبياً بإمكانهم أن يحكموا عشرة عباقرة)، هذا بالتأكيد يشير إلى أن الديمقراطية الآن بحد ذاتها ليست بالحل الناجع للمأزق وليست العصا السحرية سنلمس بها الوضع فتتحول ثمرة اليقطين إلى مركبة ذهبية من خلال عدة نقاط:
التاريخ السياسي محتشد بالتجارب التي تبرز حكم النخب أو الارستقراطية (منذ زمن اليونان) وكانت تقدم تجارب ناجحة أو على الأقل لم تترك القرار السياسي في يد الدهماء والعامة.
بإمكانكم الدخول على مواقع الإنترنت لتروا الغوغائية (على أصولها) فكلٌّ يُدلي بدلوه دون وعي وفكر، يغلب عليه السطحية والسذاجة الانفعالية التي تغيِّب المنهج العلمي في الحوار، مع إيقاظ لجميع النعرات التي تخطر في بالكم، فهل نرغب في محاصرة مشروعنا الوليد الغالي بفكر الدهماء؟
برأيكم كم من المجموع الذي ننادي بأن يدخل في الحوار يهتم بالشأن العام؟! وكم منهم تتجاوز همومه محيطه المحدود؟ بلا خلفية ديمقراطية أو تجربة سابقة في الحوار سواء عبر المؤسسات المدنية مثلا، أو عبر إعلامٍ حرٍّ أو انتخابات نزيهة؟ ثم نطلب منه فجأة أن يبدأ في الحوار وتقبل الآخر، بالتأكيد ستصبح مرجعيته الأولى بالحوار هي إما عصبية قبلية أو مذهبية متشددة أو إقليمية مغلقة ومنكفأة، على جميع عيوبها.
أنا أُقدِّر كل الأصوات التي نادت بأن يشترك الجميع في الحوار وأتفهَّم رؤيتها الوطنية النبيلة، ولكن أرى بها نوعاً من الانفصال الكبير عن واقعنا المحلي، وأرى بأن العامة لها قدرة على تحوير وتحويل الحوار باتجاه مسارات عجيبة بل بإمكانها أن تقوده إلى حتفه، عبر ما يتداول في المجالس من أراء ومقتطفات منقطعة عن سياقها وبالتالي من الممكن أن تقوم حجر عثرة أمام مسيرة القافلة.
|