* دمشق - حاوره - عبدالكريم العفنان:
فنان العراق الأول وفنان الحزن وفنان المتناقضات وفنان الشعب سمّها ما شئت انه سعدون جابر الذي عرفته جماهير العرب من الماء الى الماء وهو من أبناء الرافدين..
فنان غاب أو تم تغييبه لأن السياسة لو وظفت الفن فسيضيع الفنان كما حدث لسعدون الذي حمل عوده واختار الحزن مع العزلة فما نسيته الجماهير رغم البعد.. حاورناه فكانت دموعه حديثاً وعبرته تعبيراً.. وكان حوارنا معه دعوة منا له بالعودة ودعوة منه «بالفعو»
* يغلب على اللون العراقي الحزن واللوعة، ما هي علاقة هذا الحزن بنتاج الفن العراقي؟
- الحزن واللوعة هما هوية الغناء العراقي. لكن هذا الحزن لا يعني يأساً للانسان العراقي، فكثيراً ما كان الحزن هو المحرك للثورة نحو التغيير للأحسن ورفض الواقع المؤلم الذي يعيشه هذا الانسان، والحزن عمره من عمر الحضارة العراقية التي نشأت في بلاد ما بين النهرين قبل سبعة آلاف سنة فالانسان العراقي الذي سكن هذه الأرض نشأ متحفزاً وخائفاً من الطبيعة مرة ممثلة بدجلة والفرات والهضبة الشرقية لحدوده مع الجارة ايران أو خائفاً من جاره الشمالي «تركيا» فالناس في هذه الأماكن كانت تنظر لانسان وادي الرافدين بعيون حاسدة متحينة الفرصة للانقضاض عليه وسلبه حريته وأرضه. كذلك يخاف الانسان العراقي من النهرين دجلة والفرات اللذين خلقهما الله سبحانه وتعالى نعمة للناس فكثيراً ما تحولا الى نقمة حيث يفيضان في غير أوانهما ويقتلان الضرع والزرع وينقلان الأمراض والكوارث. عاش الانسان العراقي كل ذلك ونشأ نشأة خوف وقلق وحين يغني ماذا سيغني؟ بالتأكيد أنه سيغني حالة صادقة لما يعيشه فكان غناؤه فيه الكثير من الشجن واللوعة. وعلى العكس منه كان شقيقه المصري يعيش حالة من التفاؤل فالنيل حين يفيض فهو يفيض في الوقت الذي تحتاجه الأرض فيسقيها ويرقص الفلاح المصري فرحاً لأن النيل فاض وسقا الأرض عكس دجلة الذي لا يعرف فيضانه ولهذا سمي «النمر» ولهذا نشأت الحضارة المصرية على هدوء ونشأ معها الانسان المصري هادئاً مرحاً ضحوكاً ونشأت حضارة وادي الرافدين وانسانها متحفزاً وخائفاً فكان ينام بعين واحدة ويترك الأخرى يقظة تراقب ما يجري حوله وانعكس ذلك على الغناء في مصر والعراق ونلاحظ الغناء المصري مفعم بالتفاؤل والعراقي غارق في الحزن والألم لكن لم ييأس من المستقبل فكان دائما شاهراً سيفه ضد مستغليه مدافعاً عن حقه في الحياة الكريمة. وكذلك عاش انسان الرافدين ظلم أخيه الانسان ممثلا باقطاعيي الأرض فكان يزرع ولا يأخذ من زرعه إلا القليل الذي لا يسد حاجته، وان امتنع أو هرب من الزراعة وظلم الاقطاع كان جزاؤه القتل وعاش هذا الانسان ظلم الطبيعة وظلم أهله وظلم الجيران ولهذا قيل عنه أنه نشأ حاد الطبع وذو مزاج عنيد عكس المصري الذي نشأ في حضارة قامت على الهدوء والسكينة والغناء الذي هو المعبر الحقيقي عن تطلعات الانسان كان يترجم حالة هذا الانسان كل حسب نشأته فكان غناء العراق دافئاً وحزيناً والغناء المصري شفافاً ومفعم بالتفاؤل على الرغم من ان كلا الغنائين يؤديان بنفس المقامات الموسيقية إلا أن كل منهما يؤدى بروح مختلفة عن الأخرى.
* يتعرض بعض الفنانين لضغوط من قبل السلطات لتقديم فن معين يخدم مواقف سياسية محددة. هل تعرضتم لمثل هذه الضغوطات؟ سيما وأن النظام العراقي حاول تجنيد بعض الفعاليات الفنية والأدبية لخدمة المرحلة الصعبة التي مر بها؟
- كنت مع الأسف من أكثر الفنانين العراقيين الذين تعرضوا لمثل هذه الضغوطات ومحاولة تسييس غنائي وجعله في خدمة السلطة وكلما هربت بعيد عن سلطتها أعادوني بالقوة والاجبار والتهديد والسجون الى حلبة معاركهم.
فقد منعوني من الغناء ابتداء من أول أغنية «أفيش» حين اتهموي أني أشيد بهذه الأغنية الى جهة سياسية معينة وتم منع الأغنية وصاحبها.
وبعدها بسنتين طلبوا مني الغناء للحزب والثورة ولكوني لا انتمي لحزب معين أو لحركة سياسية معينة اعتذرت عن ذلك وكان الجواب هو المنع لمدة سنتين. بعدها اتهموني بالانتماء لحركة سياسية معنية وذلك كون، الملحن الكبير كوكب حمزة الذي لحن أولى أغنياتي ينتمي لها وقد ظنوا أني كذلك ومنعت أيضا حتى جاء عام 1990م حين أرسل النظام الجيش العراقي الى الكويت وقد طلبوا مني الغناء لذلك الحدث فرفضت وكان الرد السجن مع المنع وبعد ذلك بشهور أجبروني على أداء أغنية «يا شعبنا اليعربي.. مكة وقبر النبي» وخيروني بين الموت في أبي غريب أو انشادها وكان الأمر بذلك صادراً من جهة عليا كما أخبرني لطيف نصيف جاسم وزير الاعلام آنذاك «الموت أو الغناء» وقد سُجلت الأغنية وأنا أعرف تماماً ان الشعب العربي يعرف ان الفنان العراقي مجبر على مسايرة النظام في العراق.
هربت بعد ذلك الى الأردن وأعادتني السفارة العراقية في عمان عام 1992م الى بغداد بعد مصادرة جواز سفري ولم يسمح لي بالسفر إلا بأخذ تعهد مني وبخط اليد بأني سأعود للعراق متى طلبوا مني ذلك وإلا سيلحق الضرر بأهلي وأخوتي إن لم أعد.
واستمر اختفائي عن السلطة حتى عام 1995م حين أمر الدكتاتور الصغير عدي باحضاري وطلبوا مني الغناء مرة أخرى للنظام ولم ألبي طلبهم ورفضت طلباتهم حينها طلب مني عدي شخصيا ان اعتزل الغناء ومنع أغنياتي في كل وسائل الاعلام وجاء بمطربين آخرين يغنون له أغنياتي في حفلاته الخاصة وسهراته.
بعد ذلك راح عدي يذيع أغنيتي «مكة وقبر النبي» كلما أراد الاساءة للمملكة العربية السعودية أو الكويت لأكون أنا الحطب الذي يحترق لكنني متأكد ان الأخوة في السعودية والكويت يعرفون اللعبة الخبيثة التي يلعبها النظام آنذاك.
ولقد تدخل النظام وأجبر كل المبدعين العراقيين وفي كل المجالات الابداعية في الثقافة والفنون والرياضة والعلوم وجعلها تخدم أغراضه المريضة والحديث طويل حول ذلك.
* هل ترى في ظهور بعض الفضائيات الفنية المتخصصة ظاهرة صحية لتقديم الفن الأصيل؟ ولماذا ظهرت الأصوات الرديئة التي تثير الغرائز أكثر من العواطف؟
- أرى أن ظهور القنوات الفضائية المتخصصة خطوة رائدة لخدمة الثقافة والفن الأصيل بعد ان حوصرت هذه الثقافة والفنون الأصلية وانسحبت الى زوايا منسية.
وفرحنا كثيرا وزملائي من الفنانين الأصلاء باطلالة قناة الطرب وقنوات الثقافة والتربية والتعليم والمناهج الدراسية وهنا أشيد باعتزاز وتقدير الى خطوات سمو الأمير الوليد بن طلال وسعادة الشيخ صالح كامل والعاملين معهم لما أدلوه من اهتمام ولما صرفوه من مال لخدمة تراث الأمة وحفظه وتقديمه لجماهير الناس في كل مكان وذلك من خلال تسجيل وتصوير التراث الغنائي العربي وبثه خلال هذه القنوات التي لا تحقق ربحاً مادياً لكنها تنشد الربح المعنوي الذي يأتي من حفظ تراث الأمة والمحافظة عليه.
والفنانون العرب ينظرون بتقدير عال لهذه الخطوات من لدن سمو الأمير الوليد والشيخ صالح كامل.
* تعاون الفنان سعدون جابر مع الشاعرين السعوديين الأمير خالد الفيصل والأمير بدر بن عبدالمحسن. كيف تنظر الى هذه التجربة؟ وهل هناك نية للتعاون مع شعراء سعوديين؟
- غنيت شعر سمو الأمير خالد الفيصل وشعر سمو الأمير بدر بن عبدالمحسن بلحن يوسف المهنا الكويتي ولحن المبدع سراج عمر السعودي، وكذلك غنيت ألحان الدكتور عبدالرب ادريس وأشعار أحمد الشرقاوي وكانت من أجمل ما غنيت حيث حملت تلك الأعمال أجمل العواطف لهؤلاء الكبار شعراً ولحناً وأداءً. وكنا نتمنى لو تواصلت خطواتنا تلك أكثر وأكثر. لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
فقد فرقتنا عواصف السياسة غير الحكيمة التي ضربت منا موجعاً وبتنا لا نلتقي حتى في الأحلام وأملنا في التغيير الذي حصل في العراق أن يعود ويقرب بيننا من جديد وهناك رغبة للتعاون مع الأمير الشاعر عبدالرحمن بن مساعد. آمل أن تتبلور في الأسابيع القادمة.
* كيف تقيم تعاونك مع كبار المحنين العرب بليغ حمدي وطالب القرغولي؟ والى ماذا انتهى خلافك مع كوكب حمزة؟
يعتبر تعاوني مع الراحل بليغ حمدي أجمل وأهم خطوة في مسيرتي الفنية ليس لأنها جمعتني بالكبير بليغ حمدي هذا العملاق الموسيقي بل لأنها جاءت عن ايمان عميق من قبل الراحل بامكانات صوتي وحضوري، تصور ان الموسيقار الراحل بليغ حمدي رفض ان يتقاضى أجور ألحانه ورفض استلام أجور الفرقة الموسيقية والاستديو وكل الأتعاب التي دفعها من جيبه ورفض استلامها من الشركة المنتجة وكان قد سجلها في القاهرة ودفع كل المستحقات من جيبه ورفض أخذها من الشركة المنتجة ايمانا منه بقيمة التعاون واللقاء بيني وبينه، فأين نجد بليغاً آخر هذه الأيام.
أما الكبير طالب القرغولي فهو عملاق آخر تعاملت معه بكل رغبة ومحبة وأسعدتني ألحانه ومنها لحنه الكبير «حسبالي» فهو لحن لن يموت ولا زال يهزني من الأعماق كلما غنيته وأتمنى أن يعود طالب لمحبيه الذين أنا أولهم.
أما مسألة الخلاف بيني وبين الملحن الكبير كوكب حمزة، فلا خلاف هناك وما حدث من عتب لن يخرج عن كونه عتب أخوي.
فكوكب يريد أن أضع اسمه على الألحان التي أغنيها له وهذا حق. لكنه يعرف أني لو فعلت ذلك ووضعت اسم كوكب فسوف تمنع هذه الألحان ويذهب مغنيها الى السجن أو الموت وذلك لأن الملحن ممنوع في زمن صدام حسين وكوكب يعرف ذلك جيداً وقد أخبرته بذلك تلفونيا وكذلك العديد من الفنانين ان النظام يمنع ألحانه ونحن نغنيها على أنها لملحنين آخرين.
وكنت أضع أسماء أخرى لأي لحن يخص كوكب، لكن الناس تعرف ان هذا اللحن لكوكب لأن روح كوكب اللحنية لا تخفى على أي عراقي، أما الآن فسيعود اسم كوكب وبجدارة ووضوح ومحبة كبيرة يتصدر كل ألحانه وسنعيد الحق لصاحبه فيما حصل سابقاً.
* ما هو الفرق بين الأعمال التي قدمتها عن ناظم الغرالي وبدر شاكر السياب والعمل الذي قدمه التلفزيون المصري عن أم كلثوم؟
- الفرق واضح في الامكانات الفنية والاعلامية والمالية للتلفزيون المصري، فالتلفزيون المصري يمتلك امكانات دولة كبيرة هي مصر المحروسة.
أما انتاجي للغزالي والسياب فهما يحملان ويمثلان امكانات محدودة لفنان اسمه سعدون جابر وهي الامكانات المالية والاعلامية.
لكن تبقى العبرة بالتحرك فأنا ولشدة اعجابي وتقديري بالمبدع العراقي قدمت ما استطعت اليه دون النظر لامكانية المقارنة بين الأعمال العربية المهم عندي أن نقدم شيئاً لمبدعنا العراقي بعد ان نأت الدولة بنفسها عن ذلك فهي قائمة ضد المبدعين وضد من لا يكون بصفها وبارك الله بمن يقدم شيئاً لمبدع. المهم أن نبدأ وقد بدأت وأتمنى لغيري من الفنانين ان يأتي ويقدم أعمالا لمبدعينا تكون أكثر وأحسن مستوى مما قدمت.
|