يتحدث لنا الدكتور تركي الحمد عن أجيالنا «المتعلمة» اليوم، ويقارنها بأجيال الأمس فيقول :« ومن هنا خرجت لنا أجيال متعلمة شكلاً، ولكنها في غاية الجهل فعلاً، مقارنة بأجيالٍ سابقة كانت جاهلة شكلاً، ولكنها في غاية العلم فعلاً».
عندما قرأت هذه العبارة مثل في ذهني «محمد بن لادن» المقاول الشهير، وابنه «أسامة ابن لادن» الإرهابي المعروف، اللذين تنطبق عليهما هذه العبارة في أوضح تجلياتها.
ابن لادن الأب لم يكن متعلماً، وربما أنه كما يقولون لا «يفك الخط» إلا بصعوبة، غير أنه أعطى لبلاده وساهم في نهضتها، وأخلص في عمله، وبذل كل ما يجب أن يبذله المواطن المخلص تجاه وطنه، فحينما نمر- مثلاً- بطريق «كرا» الذي يربط مكة بالطائف، ويشق واحدا من أعلى وأوعر جبال السروات، ثم نتذكر أن هذا العمل العملاق الذي تم قبل قرابة الأربعين سنة، قامت بتنفيذه شركة وطنية أسسها وأدارها رجل يسمى محمد بن لادن، يتراءى لنا نمط ذلك الإنسان الذي لم يتعلم، ورغم ذلك وظف التكنولوجيا والآلات والمعدات و«الديناميت»، لتفتيت الصخور وإقامة الجسور، وتذليل العقبات، وأنجز هذا العمل الحضاري العظيم ليبقى شاهداً ماثلاً على نوعية رجال تلك الحقبة من الزمن، وكيف كان هو ومعاصروه من البناة الأوائل يوظفون إنجازات ومنتجات «الغرب» لخدمة مواطنيهم وأوطانهم وإنمائها..
محمد بن لادن لم يتلق تعليمه في الجامعات، وليس لديه شهادات، لم يقرأ، ولم يكن مثقفاً، ولو سألته- مثلاً- عن المودودي أو الندوي أو سيد قطب، لظن أنك تتحدث لغة صينية!، ومع ذلك كله كان واعياً ومدركاً لكيفية الاستفادة من الآخر، استورد من «الغرب الصليبي»- كما يسميه الابن- المعرفة والخبرة وكيفية بناء الأوطان، فجلب الآلات، وأتى بالمعدات، واستقدم الخبراء، وأخذ منهم كل أنواع المتفجرات، ليس ليقتل بها الناس، ولا ليخوفهم، ولا ليبث تحت اسم «الجهاد» كل ما من شأنه قتل وتدمير وإرهاب الإنسان، وإنما لخدمة هذا الإنسان!.
فجر الصخور، وأزاح العقبات، ومهد الطرقات، وتوفي وقد كان بطائرته يُحلّق يُتابعُ عمله، ويتأكد من تنفيذ ما ألقي على عاتقه من مسؤوليات، سقطت به الطائرة، وبقي هو لم يسقط، ارتفعت به أعماله، وسيبقى في ذاكرتنا ابناً باراً لوطنه الذي أعطاه، فقابل عطاءه بعطاء، ووفاءه بوفاء، وحبه بحبًّ وإخلاصٍ ومشاريع جبارة.
وأنجب أسامة، فدرس وتعلم، وجاب العالم من أقصاه إلى أقصاه، فماذا كانت نتيجة هذا العلم وهذه الثقافة وهذا الاطلاع؟.. بدّل أهداف والده من الإعمار إلى الدمار، ومن خدمة الإنسان إلى قتل وإرهاب الإنسان، ومن تذليل العقبات والعوائق أمام الحاج والمعتمر إلى المسجد الحرام، إلى تلغيم المصاحف، وتفجير الدور على ساكنيها، وإراقة الدماء، وبث الرعب، وإشاعة الخوف، وتجنيد الشباب الغض الجاهل ليفجر نفسه ويقتل غيره.
إن نموذج ابن لادن الأب «الباني» وغير المتعلم، ونموذج ابن لادن الابن «المخرب» والمتعلم في نفس الوقت، هما نموذجان غاية في الدلالة في تقديري، يجب أن نقف أمامهما طويلاً، وندرسهما بعمق كحالتين ليستا عابرتين، ونتعامل معهما بمنتهى العلمية والموضوعية، فلماذا أعطى «ابن لادن الأب» كل هذا العطاء وهو لم يتعلم، ولماذا خرب ودمر وسفك الدماء «ابن لادن الابن» بعد أن تعلم؟
وما ينطبق على ابن لادن الأب وابن لادن الابن سنجده يتكرر في حالات كثيرة مشابهة من حالات الإرهابيين، سنجد الأب قمة في عطائه وإخلاصه لوطنه، رغم جهله نظرياً وعدم تعليمه، وسنجد الابن على العكس من والده تماماً رغم تعليمه وثقافته وقراءاته.
إنه سؤال لا أدعي أنني أملك الإجابة عليه، إنما الذي أدعو إليه أننا يجب أن نفحص جيداً تلك البيئة والثقافة والتعليم التي جعلت «غير المتعلم» يزرع فينمو زرعه ويعطي ويثمر، وجعلت في المقابل من التعليم والثقافة والقراءة معولاً واصبع ديناميت يهدم ويقتل ويدمر ويفجر ويخرب، إنها مؤشرات غاية في الدلالة يا سادتي، كم نحن في أمس الحاجة للتعامل معها بكل صراحة، بعيداً عن المغالطات والمجاملات ولي أعناق الحقائق.
|