حتى الشعر الشعبي لم يبق منه على صفحات الجرائد سوى بقايا متناثرة تؤذن بالرحيل.
عندما أرفع رأسي قليلاً أشعر بالحزن. فمن باب الصدف تأتي دواوين الشعر المرصوفة في مكتبي أول الكتب التي أراها إذا أردت الاسترخاء من مطالعة شاشة الكمبيوتر الذي أكتب عليه. لم افتح مجلداً واحدا منها منذ سنوات. أصبحت مثلها مثل كتب الأغاني للأصفهاني مجرد ديكور يجمل رفوف مكتبتي. نسيت أن هناك شيئاً آسمه شعر يقرأ. حتى موت فدوى طوقان لم يثر عندي أي حنين لقراءة الشعر.
عندما كان الشعر يصطخب في عقد الثمانينات الميلادية كان نقاده وكتابه يتنبئون بأن الشعر سوف يزول أمام صخب الآلة وضجيج المدن الإسمنتية. يقولون هذا الكلام بمتعة بوحهم الشعري. كان هذا المعنى يردد بتنويعات شعرية حتى فقد دلالته وبتنا نعده جزءاً من الشعر لا علاقة له بالتنبؤ العلمي. فمن شدة حماس أصحاب الشعر كان بعض الشعراء المتهورين يرددون في أي مكان يجلسون فيه أن الشعر سوف يغير العالم.
لم أجد حتى الآن العلاقة بين زوال الشعر وبين قدرته على تغيير العالم. كنت أقول إنها التناقضات التي تتناسل في فضاء الشعر المترامي.
المؤكد الآن أن الشعر زال. إذاً هذه هي النبوءة الأولى وأن العالم تغير هذه النبؤة الثانية ولكنا لا نستطيع أن ندعي أن التغير الذي أصاب العالم كان بفعل الشعر. فلا يمكن لأي شعر دخل هذا الوجود أن يؤدي حضوره إلى خلق ذلك الزمان الذي يكون فيه جورج دبليو بوش رئيساً للعالم إلا إذا كان للشعر حكمته التي لم يأت أوان فك طلاسمها بعد. فعالم واشنطن هو فسيفساء من الجحيم المنظم. أعظم مكان يمكن أن ينتج أشكال الموت المتخيل. قصيدة شعر لا يكف الشيطان عن كتابتها.
اليوم تذكرت الشعر. كنت في حاجة إلى هادٍ أو دليل لكتابة عنوان لعمل فني أريد نشره. لم ترضني كل العناوين التي تخلقت من داخل النص. كان تأثير الأعمال الفنية المشابهة التي قرأتها كبيراً فقررت أن ألجأ إلى دواوين الشعر التي فوق رأسي لأحدث صدمة لآلية الخلق في دماغي حتى يفكر خارج المألوف أو خارج الصندوق كما يقول الإنجليز. قرأت ثماني قصائد لثمانية شعراء كنت قد أحببتهم في يوم من الأيام مثل عبدالوهاب البياتي وأمل دنقل ومحمود درويش ونزار قباني الخ. لم تحدث الصدمة في دماغي ولكن حدثت في وجداي. أغلقت الداووني بسرعة وعدة إلى عالم جورج بوش. بقيت قصيدة واحدة عالقة في دماغي تريد أن تسافر معي إلى هذا العالم الذي لا قيمة لها فيه. أتيت بها لا يشفع لها سوى أنها أول قصيدة حديثة حفظتها عن ظهر قلب.
هبوط آرفيوس إلى العالم السفلي
صلوات الريح في آشور والفارس في درع الحديد
دون أن يهزم في الحرب يموت
ويذرى في الدياميس رماداً وقشور
تحت سور الليل والثور الخرافي يطير
ناطحاً في قرنه الشمس التي علقها.. في سقف الوجود والمغنون شهود
وإلى النار التي أوقدها الرعيان في الأفق سجود
مدن تولد في المنفى وأخرى تحت قاع البحر أو قاع لياليها تغور
وينام الناس في أسحارها دون قبور
كالعصافير على حائط نور
وأنا أحملهم فوق جبيني من عصور لعصور
أرتدى أسمالهم، أنفخ في ناي الوجود
نزفت كل جراحاتك، حتى الموت
في فجر السلالات وفي عصر الجليد
...
وهكذا تستمر القصيدة في ديوان (الكتابة على الطين) للشاعر عبدالوهاب البياتي.
فاكس 4702164
|