إن الكلمة كائن حيُّ لها روح وَجَسَدٌ، ولها قلبٌ ينبض، وعروق تضخُّ في قلب قائلها وسامعها الإحساس والشعور في كل حالات الغضب والرضا، والحب والكراهية، والصدق والكذب، ولذلك فإنَّ للكلمة حبالاً من الشعور، وخيوطاً من الإحساس تصل بين قائلها وسامعها، فيحدث الأثر في نفس السامع وقلبه، ومن هنا تحصل عملية الاتصال، والانقطاع في الكلمة، فإذا كانت كلمة المتكلِّم نابضةً بالصدق، ناطقة بالحق، خارجة من القلب دون تلبيس وتدليس، ودون تلميع وتزويق، وصلت إلى قلب السامع، وجرت في عروقه، وظهر أثرها في نفسه، وإذا كانت كلمة المتكلمة مغلَّفةً بالكذب، ناطقةً بالباطل، مصبوغة بالتلبيس والتدليس، محمَّلةً بسوء النّية، تعطَّلت حركتها، وانقطعت حبال تواصلها، ولم تستطع أن تصل إلى عقل السامع وقلبه، بل إنها تجد من الحواجز الذهنية والنفسية ما لا يتيح لها ما يريد بها صاحبها من التأثير في الآخرين، وهنا يمكن أن توصف بأنَّها كلمة منقطعة، باهتة الأثر، إلا فيما تُظهره من كذب صاحبها، وسوء نيّته.
كم من رجلٍ ذي علمٍ وثقافةٍ يتكلَّم كلاماً واضحاً من حيث الألفاظ والصوت، ولكنَّك لا تشعر بأيِّ تفاعلٍ مع كلامه، ولا تُحِسُّ بأيِّ تواصل مع عباراته بالرغم من حرصه على اختيارها، وتوصيلها إليك بصوتٍ جهير ونطقٍ واضح.
لماذا تجد كلمات هذا الصنف من الناس باباً مغلقاً مع أنَّ نصيبها من الصُّراخ والجلجلة غير قليل؟
هنالك شيء أُسمِّيه «الحبل السرّي» هو الذي يكفل لكلماتنا أنْ تصل إلى قلوب السامعين، فإذا انقطع هذا الحبل مات أثر الكلمات وأُغلقت دونها أبواب القلوب، وصدَّت عنها النفوس، ولم تحدث أثراً فاعلاً عند من يستمع إليها، والحبل السري مرتبط بصدق المشاعر، ونزاهة القلب، وسلامة الصدر، وحسن النِّية، وهي أمور مهمة في التوصيل، إذا فقدها المتكلم فقد القدرة على التأثير مهما كان فصيحاً بليغاً.
يقول محمد بن أبي عائشة رحمه الله «إذا أراد المتكلِّم بكلامه غير الله زَلَّ عن قلوب جلسائه كما يزلُّ الماء عن الصَّفا».
إنه تصوير دقيق جداً لأثر النِّية في كلام المتكلم، ولهذا لا يجد أصحاب الأغراض الشخصية البحتة أو الحزبية الضيِّقة، أو النيَّات السيئة قبولاً لما يتحدثون به عند الناس، فكم من ذي علمٍ وشهادةٍ عالية وثقافة واطِّلاع يتكلم فيشعر الناس أنه يقذف بالحجارة والمسامير والحَسَك من فمه.
ولقد وفِّق ابن أبي عائشة في قوله واصفاً انقطاع الكلمة التي لايراد بها وجه الله عز وجل بأنها «تَزِلُّ عن قلوب الجلساء كما يزلُّ الماء عن الصَّفا» فإنه وصف دقيق لأن الماء إذا وقع على حَجرٍ أملس لا يمكن أن يستقر عليه، وكذلك الكلمة المنقطعة لا تستقر في قلب سامع أبداً.ولهذا قال التابعيُّ الجليل «عامر بن عبدالله»: «الكلمة إذا خرجت من القلب، وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان، لم تجاوز الآذان».
وقد أشار «الحسن البصري» رحمه الله إلى انقطاع كلمة المدلِّس، والمنافق الذي لا يقصد بكلامه خيراً، وذلك في قوله لرجلٍ تحدَّث إليه طويلاً وهو ينصت، ولا يحس مع إنصاته بأيِّ أثر لكلام ذلك الرجل: يا هذا إنَّ بقلبك لشرَّاً أو بقلبي، لماذا قال أبوسعيد «الحسن البصري» هذا القول؟
لأن كلام المتحدث إليه وقف خارج أبواب القلب لم يستطع قَرْعها، فضلاً عن فتحها.
الكلام المنقطع عن القلوب، يدلُّ على قلوب تحتاج إلى إصلاحٍ وتنقيةٍ من شوائب الهوى، وسوء النيَّة، فلا نامت أعين المتحذلقين.
إشارة:
أوْغلْتُ في كل القلوب فلم أجدْ
قلباً كقلبكِ صادقَ النَّبضاتِ |
|