كان أهم جذور الخلاف بين «أثينا» و«أسبارطة» يتركز حول موقفهما من النقد والفلاسفة والفنانين، فقد كان الأثينيون يحكمون بالديموقراطية ويبجلون الفلاسفة والفنانين، بينما كان الأسبارطيون يغلقون الابواب أمامهم ويعتبرونهم خطراً لانهم يشجعون الافكار الجديدة، ويعتقد الأسبارطيون ضمن اعتقادات أخرى أن الفكر والفنون والآداب هي نوع من الضعف والاستسلام والنعومة غير المستحبة.
تلك الصورة بين المدينتين رسمت أبعاداً رمزية في قضية الخلاف المزمن بين «الساسة»، و«الفلاسفة»، لتبقى «أثينا» مدينة إفلاطون الفاضلة حلماً إنسانياً يحلم بتحقيقه الفلاسفة والمفكرون في الحياة الدنيا، بينما ظلت أسبارطة صورة مفبركة ل «المدينة» الفاضلة عند الساسة وقادة الدول في فترات طويلة من التاريخ الإنساني، والتي حاولوا إعاة إنتاجها في ثوبها الجديد من خلال التحكم في «الحقيقة»، لكن الإيمان بحقيقة تلك الصورة لم يكن على المستوى الشعبي بالقدر الذي رسمه الآخرون، فبيع وهم الوطن المثالي والمتكامل، أو واقع المجتمع الفاضل كان إحدى أزمات السياسة، فقد كان ولا يزال نقد الواقع في بعض المجتمعات، وتشريح علله المزمنة خروجاً على المجتمع الفاضل، لكن تسارع الاحداث أسقط الإصرار على فضيلة المنهج الأسبارطي أمام مستجدات العصر الحديث، فلغة الأرقام كسرت حاجز الصمت، وتصدير «العنف» دق ناقوس الخطر، وصعد الانفتاح الفكري ليأتي الإعلان الرسمي عن مشكلة الفقر بمنزلة شعار العمل من أجل الخروج من أسوار مقاومة التغيير، والإعلان عن فتح المجال لمواجهة التحديات الجسام في القرن الجديد.
وتلا ذلك بفترة قصيرة فتح ملفات أزمة التعليم والذي منح فرصة للمفكرين والنقاد بالمطالبة بالتغيير في المناهج لمواكبة متطلبات العصر الجديد مع الحفاظ على ثوابت الأمة والوطن، ويبدو أن العمل جارٍ من أجل دفع التغيير إلى الامام، والواضح أن تغيير المناهج يواجه معارضة دينية شديدة، وهو ما يتطلب من الجميع جهوداً مضاعفة ومشتركة لرأب أوجه الخلاف حول قضايا إصلاح المناهج، لكن الإشكالية التي ظهرت على السطح «بشفافية» كما ذكرت في مقال سابق تكمن في تقرير اليونيسيف وفي المعدلات المنخفضة في نسب التحاق الأطفال في التعليم الابتدائي في السعودية، فالتقرير يورد نسب الأطفال في مدارس التعليم الابتدائي بمعدل 60% للذكور و56% للإناث بين عامي «1997و2000»، وهو ما يعني أن هناك 40% من الأطفال الذكور، و44% من الإناث من الأطفال السعوديين لا يلتحقون بالمدارس الابتدائية، ويفقدون فرصة التعليم في مرحلة الطفولة، بينما كانت نسب التحاق الأطفال بالتعليم الابتدائي أفضل في معظم بقية الدول العربية، والتحدي «الحقيقي» هو في إيصال التعليم إلى جميع فئات المجتمع، وإلزام أفراده إلحاق أبنائهم في المدارس، حيث لا يوجد قانون يلزم أفراد المجتمع السعودي إلحاق أبنائهم في التعليم الابتدائي، ويعاقب المتخلفين عن ذلك، فهل سيتم التعامل مع هذه النسب المنخفضة بجدية، ثم العمل على تحقيقها على أرض الواقع بدلاً من الاكتفاء سنوياً بإحصاء اعداد الطلبة الملتحقين المدارس؟.
المؤكد أن ناقوس الخطر سيدق بشدة وبلا توقف إذا أدركنا أن بيانات التركيب العمري للسكان السعوديين تشير إلى أن نسبة الأطفال في السعودية ممن يبلغ عمرهم 14 عاماً أو أقل تصل إلى 23،49 في المائة من إجمالي عدد السكان السعوديين حسب آخر تعداد.
ولم تنقطع الإشارات الحكومية عن ضرورة الخروج من شعارات المجتمع المثالي، إلى حيث اختلاف مدارس التفكير والنقد والشفافية والدراسات المنهجية، فالدراسة التي أجراها مركز مكافحة أبحاث الجريمة بوزارة الداخلية، تعلن عن تفشي ظاهرة إيذاء الأطفال بعد أن كنا ننفي حدوثها في مجتمعنا «المسلم» حيث اتضح من خلال الحالات التي خضعت للدراسة أن 45% من الحالات يتعرضون لصورة من صور الإيذاء في حياتهم اليومية، حيث يحدث الإيذاء بصورة دائمة ل 21% من الحالات في حين يحدث ل 24% أحيانا. ويمثل الإيذاء النفسي أكثر أنواع الإيذاء تفشيا بنسبة 6،33% يليه الإيذاء البدني بنسبة 3،25% وغالبا ما يكون مصحوبا بإيذاء نفسي، يليه الإهمال بنسبة 9،33%، واحتل الحرمان من المكافأة المادية أو المعنوية المرتبة الأولى من أنواع الإيذاء النفسي بنسبة 36% تليها نسبة الأطفال الذين يتعرضون للتهديد بالضرب 32% ثم السب بألفاظ قبيحة والتهكم 21%، وفي حالات الإيذاء البدني فإن أكثر صور الإيذاء البدني تفشيا هي الضرب المبرح للأطفال بنسبة 21% يليها تعرض الطفل للصفع بنسبة 20% ثم القذف بالأشياء التي في متناول اليد 19%، ثم الضرب بالأشياء الخطيرة 18%، ثم تعاطي الدخان والشيشة في حضور الأطفال 17%، ومن أبرز صور الإهمال الذي احتل المرتبة الثالثة من أشكال الإيذاء التي يتعرض لها الأطفال في السعودية هي عدم اهتمام الوالدين بما يحدث للطفل من عقاب في المدرسة بنسبة 31%، وعلى الرغم من ان الدراسة لم تشمل الإناث، ولم تدرس صور الإيذاء الجنسي، إلا أنها تعتبر «فيزا» خروجاً نهائياً من حدود المدينة المزعومة، فهي تعلن بشكل صريح أن نسبة كبيرة من البالغين في المجتمع السعودي يؤذون أطفالهم، وهذا في حد ذاته دليل اننا نعاني أزمة تربوية وتعليمية.
والمؤكد أن الجرأة الرسمية لإعلان انتهاء مرحلة وضرورة مواجهة ما يجري في الواقع بمنتهى الشفافية، هي في واقع الأمر إعلان عن بدء مرحلة جديدة، شعارها الوضوح والشفافية، ومضمونها الدراسات المنهجية والإحصاءات الدقيقة، وهو ما أدى إلى الوقوف بكل شجاعة خلف الأرقام الرسمية التي تقرر مأساة يعيشها الطفل السعودي في نظام تعليمي لا يلزم والديه إلحاقه بالمدرسة، وخلف أرقام تحكي إشكالية الفقر محلياً، وخلف الإعلان عن الدين العام وخطورته على الاقتصاد الوطني، وخلف عقد دورات الحوار الوطني من اجل زرع بذور «جديدة» للتسامح والتعددية واحترام الآخر، ثم تسليط الضوء بجرأة على مصيبة إيذاء الأطفال ونسبها العالية في المجتمع السعودي، وهو ما يعني أن المجتمع مطالب بأن يقف من اجل مستقبل أكثر أماناً لفلذات أكبادنا، وذلك من خلال العمل ميدانياً بإعطاء الأولوية للأطفال وتوفير الرعاية لجميع الأطفال دون استثناء، والتوقف عن إيذاء الأطفال واستغلالهم، والإصغاء لهم، وتوفير الصحة والتعليم لكل طفل، وأخيراً القضاء على الفقر واستغلال الطفولة.. وهذا لن يحدث من دون اهتمام رسمي، وإصدار قوانين تحكم جرائم إيذاء الأطفال.
والمدينة الفاضلة «الحقيقية» نستطيع الوصول إلى طريقها في مجتمع تحكمه مبادئ النقد والمراجعة والشفافية وأخلاقيات وحقوق إنسان تمنح الطمأنينة والسكينة للمجتمع، وتزيد من معيار الوعي والاحترام للذات الإنسانية على أسس العدل والإنصاف، وبعيداً عن اقتراف الجرائم والمظالم ضد الأطفال وضد الآخرين وضد المجتمع، ولن يتم ولا يمكن الاقتراب من حدودها «الحقيقية» مرة أخرى إلا على أرضية خصبة تعتبر حقوق الغير من المقدسات التي لا يجوز التجاوز عليها، في ظل وجود قوانين وانظمة تحمي الإنسان من الإنسان.
هذه الأرضية.. هي ذلك المكان التي تنشأ فيها الشخصية القدوة وتتكون فيه الأسرة القدوة، التي بتكاثرها يتكون المجتمع القدوة، أو المدينة الفاضلة حيث يكون العمل الجماعي بقدر أهمية العمل نفسه من أجل المصلحة الفردية، وحيث يكون الإعلان رسمياً عن الخروج من وهم شعار المدينة الفاضلة قراراً في الطريق الصحيح نحو تصحيح تلك الأرقام المؤذية لجسد الوطن، لكن حسب وجهة نظري الأهم من ذلك ألا يتراجع القرار الرسمي عن المضي في ذلك الطريق الصحيح.
|