* كتب مندوب الجزيرة:
يأتي حجاج بيت الله الحرام من كل بقاع الأرض لأداء هذه الفريضة الغالية، يدفعهم الشوق، تتملك أفئدتهم الرغبة في غفران الذنب ونيل الأجر، إلا أن كثيراً منهم بحكم بعدهم عن مصادر العلم الشرعي يجهلون تعاليم الإسلام وواجباته، وهنا يصبح الحج فرصة عظيمة لإزالة الشبه التي قد تكون عالقة في نفوسهم، وتعريفهم ويجهلونه من أمور دينهم.. عن طريق العلماء والدعاة وطلبة العلم من أبناء المملكة.. لكن كيف يحدث ذلك؟ وماذا يتعين على العلماء والدعاة لنصح وإرشاد وتصحيح عقيدة هؤلاء الحجاج؟.. هذا ما نحاول التعرف عليه من خلال هذا التحقيق..
في البداية يقول فضيلة الشيخ سليمان بن عبدالرحمن الربعي مساعد رئيس محاكم منطقة القصيم ان الله سبحانه وتعالى جعل لعباده المؤمنين مواسم يتزودون فيها من الطاعات بما يقربهم إليه سبحانه، فشرع جل وعلا الصيام والحج في العام مرة واحدة، يتفق المسلمون في أدائها طاعة لخالقهم، وطمعاً في الجنة ورجاء المغفرة والرحمة، ومن شعائر الإسلام الظاهرة التي تقوي شوكتهم وتوحد صفهم وتجمع كلمتهم هذا الركن العظيم من أركان الإسلام ألا وهو الحج الذي يؤديه المسلمون على صعيد واحد استجابة لأمر ربهم سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {ولٌلَّهٌ عّلّى النَّاسٌ حٌجٍَ البّيًتٌ مّنٌ اسًتّطّاعّ إلّيًهٌ سّبٌيلاْ} وتحقيقاً لنداء أبيهم إبراهيم عليه السلام في قوله جل وعلا: {وأّذٌَن فٌي النَّاسٌ بٌالًحّجٌَ يّأًتٍوكّ رٌجّالاْ وعّلّى" كٍلٌَ ضّامٌرُ يّأًتٌينّ مٌن كٍلٌَ فّجَُ عّمٌيقُ} وان اجتماع المسلمين في بلد الله الحرام ووقوفهم على صعيد واحد بلباس واحد يدعون رباً واحداً لا شريك له لأمر يفتخر به كل مسلم ومسلمة، وان مجيء المسلمين من بلاد بعيدة ومن كل فج على اختلاف أجناسهم ولغاتهم علمهم وتعليمهم وقلة تحصيلهم للعلم الشرعي، وما يفرقون به بين الصحيح والفاسد من عباداتهم لأمر يوجب على العلماء والدعاة وطلبة العلم التبيين والبيان، وتعريفهم بالحلال والحرام وإيضاح المشكل من الأقوال والأفعال والتحذير من الزيغ والضلال في العقائد والعبادات والمعاملات.
ويضيف الشيخ الربعي: ومن أهم ما يجب على العلماء والدعاة وطلبة العلم بيانه للحجاج تحذيرهم من الوقوع في الشرك وبيان العقيدة الصحيحة التي ضل عنها أكثر الناس اليوم فوقعوا في الشرك من حيث لا يشعرون.. فترى من الحجاج من يستغيث بغير الله ومن يطلب النفع والضر من الأموات ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن الحجاج من يؤدي المناسك على غير ما شرع الله سبحانه وتعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فيأتي الحاج من أماكن بعيدة وبنفقات كثيرة ثم يؤدي مناسك الحج بجهل وضلال ومن هنا يأتي دور العلماء والدعاة وطلبة العلم في النصح والتوجيه والإرشاد وبيان الحق من الباطل والصحيح من الفاسد، وإنها لفرصة عظيمة ان يقوم العلماء والدعاة بمثل هذا في هذه الجموع الغفيرة متمثلين قول الله جل وعلا {وأّنَّ هّذّا صٌرّاطٌي مٍسًتّقٌيمْا فّاتَّبٌعٍوهٍ ولا تّتَّبٌعٍوا السٍَبٍلّ فّتّفّرَّقّ بٌكٍمً عّن سّبٌيلٌهٌ ذّلٌكٍمً وصَّاكٍم بٌهٌ لّعّلَّكٍمً تّتَّقٍونّ} حتى يرجع الحجاج إلى أهلهم وأوطانهم وقد تعلموا ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والقول على الله بغير علم وهو ما يستوجب وقفة من العلماء الربانيين الموثوق بعلمهم وإخلاصهم وحكمتهم، وان هذه البلاد المباركة «المملكة العربية السعودية» لجديرة بالقيام بهذا الدور الذي تؤديه في كل عام عبر قطاعاتها المختصة افتاء ودعوة وتوجيهاً ونصحاً وإرشاداً بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال جل وعلا: {ادًعٍ إلّى" سّبٌيلٌ رّبٌَكّ بٌالًحٌكًمّةٌ والًمّوًعٌظّةٌ الحّسّنّةٌ وجّادٌلًهٍم بٌالَّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ}.
موسم يلين القلوب
أما الشيخ عبدالرحمن بن غنام الغنام، وكيل وزارة الشؤون الإسلامية المساعد لشؤون الدعوة فيقول:
وبالنظر إلى ما منَّ الله به على هذه البلاد من العلم الصافي، والوضوح التام في المعتقد، والانقياد التام لتوجيه الباري، أصبح العلم سجية عند الكثيرين من أهل هذه البلاد، والعلم المقصود هنا: هو معرفة حق الله ومراده، وحق رسوله ومراده، وصفات العبادات وكنهها، فهذا ظاهر بحمد الله وجميل منه في هذه البلاد، وليس معناه ان العلم حكر على أهل هذه البلاد، بل ان بلاد المسلمين في أنحاء الأرض تزخر، وتزهو بكواكب درية من العلماء الربانيين، هذا ما نظن فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقوا إلى فجاج الأرض، وبلغ كل منهم ما سمع من رسول الله وما علم من أوامر الله، وأوامر رسوله، فكان دين الله كاملاً في جميع المعمورة، وخلف كل واحد منهم علم تناقلته الأجيال كابراً عن كابر، فتمسك أهل كل قطر بما بلغهم، وهذه من سمات دين الله وكماله، وحيث إن الأصل دائماً أكثر إلماماً بواجبه، وان هذه البلاد عاشت القربين الحسي والمعنوي من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمهما شغل أهل الأرض عن العلم، فأهل هذه البلاد يجب ألا يشغلوا عن واجبات العلم اللازمة على من منّ الله عليه بشيء منه، فبعد العلم العمل، والدعوة إليه، وبذله للناس، وتعليمهم، وإيصال العلم إلى كل محتاج له، فمهما يكن عند أهل الأرض من علم إلا ان العلم عند أهل هذه البلاد سمة عظيمة، ونعمة جليلة، نسأل الله أن يبارك فيه.
وموسم الحج والكلام مازال للشيخ الغنام موسم تلين فيه القلوب، وتخبت فيه الآذان إلى استماع الطيب من الكلام، وهو فرصة عظيمة للإنسان، وهو يحبس نفسه، ويقصر اهتماماته على العبادة والدعوة، والعمل لدين الله، ان يوجه للعلم النافع والعمل الصالح، وان يستفيد من هذه النفحات في تعزيز الإيمان وتقويته، وتصحيح العبادة، وتنقيتها مما يقلل أجر صاحبها، أو يمحوه، فلا يكون كما قال الله جل وعلا: {قٍلً هّلً نٍنّبٌَئٍكٍم بٌالأّخًسّرٌينّ أّعًمّالاْ الذٌينّ ضّلَّ سّعًيٍهٍمً فٌي الحّيّاةٌ الدٍَنًيّا وهٍمً يّحًسّبٍونّ أّنَّهٍمً يٍحًسٌنٍونّ صٍنًعْا} وإذا بذلنا جهدنا في هذا، ووفق الدعاة إلى القيام به، فإن الأجور تتضاعف، فمن دل على خير فله مثل أجر من عمله.
إن اللين الذي نجده في كثير من الحجاج يلزمنا بذل الجهد، ولذا أهيب بالدعاة وأهل العلم ان يبادروا إلى القيام بالواجب ومراعاة الأصول الشرعية في التوجيه والدعوة، وأذكّر منها بما يلي: الرفق والحكمة، واللين والشفقة، والتأصيل العلمي، ومراعاة ما وصل إلى الناس من العلم، كذلك مراعاة الفروق الفردية، ومراعاة الصحيح من المذاهب، وعدم حمل الناس على مفردات المسائل، ويضاف لذلك بيان وتوضيح الحق دون الالزام به إذا كان لدى المخالف سند شرعي، والتدرج في الوعظ والتأكد من فهم المخاطب للتوجيه، واتخاذ الوسائل المعينة كاللطف، وجميل الخطاب، ولين الحوار، وانظر إلى الطبيب كيف يعالج مريضه، وكيف يستقبله، فحري بأهل الفضل ان يكون اللين ديدنهم، وجميل الخطاب سمتهم، وصدق اللقاء عنوانهم، كل هذه الأمور ادعى للقبول والطاعة، وان يدرك الداعي ان المدعو قد وصل إليه علم ما يعمل، فلن تستطيع تغيير كامل ما هو عليه في أيام قليلة.
واجب العلماء والدعاة
من جانبه يقول فضيلة الشيخ جابر بن محمد مدخلي الأمين العام للتوعية الإسلامية في الحج: إن الحج فريضة من فرائض الإسلام، وركن من أركانه أوجبه الله على كل مسلم، بالغ، عاقل، حر، مستطيع بدنيا وماليا في العمر مرة واحدة كما بين الله ذلك
والحج من مكفرات الذنوب، ومن موجبات دخول الجنة، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» ولقوله: «ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
ولماذا شرع الحج مرة واحدة في العمر فبخلاف بقية الأركان؟ ربما يكون السبب والله أعلم ان الأركان الأربعة يتيسر أداؤها في أي مكان يقيم فيه المسلم دون مشقة، أما الحج فإن أداءه لا يتم إلا في بقعة واحدة من الكرة الأرضية، مكة المكرمة، والمشاعر المقدسة، منى، وعرفة، ومزدلفة، والوصول إليها فيه مشقة كبيرة على عامة الناس، والإسلام دين اليسر والسماحة {يٍرٌيدٍ اللَّهٍ بٌكٍمٍ اليٍسًرّ ولا يٍرٌيدٍ بٌكٍمٍ العٍسًرّ} وهذا معنى الاستطاعة في قوله تعالى: {ولٌلَّهٌ عّلّى النَّاسٌ حٌجٍَ البّيًتٌ مّنٌ اسًتّطّاعّ إلّيًهٌ سّبٌيلاْ}.
ولراحة حجاج بيت الله الحرام، تتفانى حكومة بلادنا الطيبة في تقديم جميع الخدمات لهم لتيسير حجهم.
ومن أهم تلك الخدمات التي تقدمها هذه الدولة المباركة في علمها توعية الحجاج والمعتمرين بأمور دينهم وأحكام حجهم وعمرتهم والإجابة عن أسئلتهم إقامة للحجة، وبراءة للذمة عملاً بقول الله تعالى: {ادًعٍ إلّى" سّبٌيلٌ رّبٌَكّ بٌالًحٌكًمّةٌ والًمّوًعٌظّةٌ الحّسّنّةٌ وجّادٌلًهٍم بٌالَّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ} وعملاً بقول رسوله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا»، وقوله: «ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله» وقوله: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم». وتلك هي النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
نصائح مهمة
وينصح الشيخ جابر مدخلي العلماء المشاركين في توعية الحجاج والمرافقين لحجاج بلادهم بالاهتمام بعدة أمور هي:
1 تأصيل العقيدة الصحيحة التي نبه عليها وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» وهي العقيدة التي تميزت بالوسطية بين الأديان في نصوصها، وأحكامها، ودعوتها وأسلوبها، فتأصيل العقيدة الإسلامية في نفوس الحجاج قبل عزمهم على الحج، وأثنائه، وبعده، هو الأساس في التوعية والتوجيه وقبول الأعمال، وزيادة الأجر والثواب.
2 الحرص على تأييد مسائل الأحكام والتوعية الإسلامية في العقيدة والعبادات والمعاملات، وحتى مسائل الأخلاق والسلوك تأييدها بالأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمة المشهورين فذلك أدعى لقبول الحق وتطبيقه، ولأن البيان إن لم يكن مدعوماً بالبراهين والأدلة الصريحة الموضحة فإن المتلقي سيبقى في شك وحيرة من أمره.
3 توضيح أحكام الحج والعمرة، وتبسيط معانيها، واختصار مطولاتها، وتفصيل ما أجمل منها، وتقريب فهمها إلى أذهان الحجاج بأسلوب سهل وعبارة واضحة يفهمها العامي، ويقبلها المتعلم، وان التطبيق العملي والتوضيح البياني أسلوب من أساليب دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا».
4 معالجة الأخطاء التي يقع فيها الحجاج عن جهل أو قصد بأسلوب لا يشعر معه الحاج انه هو المعني بذلك مباشرة، ففي ضرب الأمثال مندوحة عن النقد المباشر، وفي صيغ التعميم بعبارة: «ما بال أقوام» ما يؤدي الغرض ويحقق المقصد، وقد وجهنا ربنا ان نقتدي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته وأسلوبه وتعامله مع المدعوين لقوله تعالى: {لّقّدً كّانّ لّكٍمً فٌي رّسٍولٌ اللَّهٌ أٍسًوّةِ حّسّنّةِ لٌَمّن كّانّ يّرًجٍو اللَّهّ والًيّوًمّ الآخٌرّ وذّكّرّ اللَّهّ كّثٌيرْا}.
5 الحرص على تقديم ما يجمع قلوب الأمة، ويوحد كلمتها، ويحبب إليها دينها وعلماءها، وحكامها، فذلك من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية حث عليه ربنا في آيتين من كتابه إذ قال تعالى: {إنَّ هّذٌهٌ أٍمَّتٍكٍمً أٍمَّةْ واحٌدّةْ وأّنّا رّبٍَكٍمً فّاعًبٍدٍونٌ}، وقوله: {وإنَّ هّذٌهٌ أٍمَّتٍكٍمً أٍمَّةْ واحٌدّةْ وأّنّا رّبٍَكٍمً فّاتَّقٍونٌ} فكل ما يجمع شمل الأمة ويقارب بينها في جميع المجالات العبادية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والتعليمية فذلك مطلوب ومرغوب محمود لأن الله يقول: {واعًتّصٌمٍوا بٌحّبًلٌ اللَّهٌ جّمٌيعْا ولا تّفّرَّقٍوا}.
6 البعد عن كل ما يؤدي إلى الفرقة والاختلاف ويسبب عوامل النفرة والكراهية بين المسلمين وما نهى القرآن عن شيء أكثر مما نهى عن الفرقة والاختلاف، وذلك لأن الفرقة والاختلاف معاول هدم وتدمير لبنية الأمة وسبيل للشيطان وأوليائه لإضعاف الأمة وتمزيقها: {إنَّ الذٌينّ فّرَّقٍوا دٌينّهٍمً وكّانٍوا شٌيّعْا لَّسًتّ مٌنًهٍمً فٌي شّيًءُ إنَّمّا أّمًرٍهٍمً إلّى اللَّهٌ}، وقوله: {مٍنٌيبٌينّ إلّيًهٌ واتَّقٍوهٍ وأّقٌيمٍوا الصَّلاةّ ولا تّكٍونٍوا مٌنّ المٍشًرٌكٌينّ مٌنّ الذٌينّ فّرَّقٍوا دٌينّهٍم وكّانٍوا شٌيّعْا كٍلٍََ حٌزًبُ بٌمّا لّدّيًهٌمً فّرٌحٍونّ} وإذا كانت الأمة اليوم قد وصلت إلى ضعف ووهن بسبب ما زرعه الأعداء من خصومات ونزاعات بينهم، فإن الدعاة مطالبون بتصحيح تلك الأوضاع وانتشال الأمة من تلك الحفرة المظلمة والفجوة السحيقة.
7 استعمال اللطف واللين في الدعوة والرفق والرحمة بالمدعو فما قبلت وانتشرت الدعوة واستجاب المدعوون في صدر الإسلام إلا بذلك والرسول صلى الله عليه وسلم عنوان هذه الحقيقة حتى شهد له ربه بذلك: {وإنَّكّ لّعّلّى" خٍلٍقُ عّظٌيمُ } وقوله: {فّبٌمّا رّحًمّةُ مٌَنّ اللَّهٌ لٌنتّ لّهٍمً ولّوً كٍنتّ فّظَْا غّلٌيظّ القّلًبٌ لانفّضٍَوا مٌنً حّوًلٌكّ فّاعًفٍ عّنًهٍمً واسًتّغًفٌرً لّهٍمً وشّاوٌرًهٍمً}.
الدروس المستفادة
أما د. عبدالكريم بن يوسف الخضر أستاذ الفقه بجامعة الملك سعود بالقصيم فيقول:
في الحج دروس كثيرة يستفيد منها الحاج ذاتياً من خلال أداء المناسك ومن هذه الدروس تعويد المسلم وتعليمه الصبر وقوة التجلد والتحمل: والصبر من أهم الأخلاق الإسلامية التي ينبغي للمسلم ان يتحلى بها في شأنه كله وذلك لأنه يعلمه ويعوده على التحمل والتجلد وينمي فيه قوة الإرادة والعزم فيجعله مسلماً جلداً قوياً، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير.
والناظر في فريضة الحج يجد هذه الصفة تتمثل جلياً في هذه الشعيرة، وذلك ان الإنسان إذا لم يكن لديه درجة كافية من الصبر والتحمل فإنه لن يستطيع ان يؤدي هذه الشعيرة التي افترضها الله عليه.. يضاف لذلك تعلم البذل والانفاق في سبيل الله.. فموسم الحج من أعظم المواسم التي يبذل فيها المسلم وينفق فيها في سبيل الله الأموال طيبة بها نفسه، كيف لا والحاج يقصد من عبادته هذه رضا ربه وبلوغ الجنة، نعم يتعلم المسلم البذل والعطاء بسخاء، فهو يبذل ماله في تحصيل نفقة الحج على نفسه سواء ما يتعلق منها بنفقة السفر أو ما يتعلق بنفقة الإقامة بمكة، أو ما يتعلق بقيمة الهدي وغير ذلك من نفقات الحج، ويبذل ما له أيضاً في تحصيل نفقة من يمونهم خلال فترة غيابه في الحج، فإذا ما بذل المسلم هذا القدر من المال يتعود البذل والإنفاق في جميع وجوه الصدقة ومشاريع الخير.
ومن الدروس التي يستفيد منها الحاج ذاتيا الشعور بالمساواة بين المسلمين فلا فرق بين غني وفقير، ولا قوي وضعيف، ولا عزيز وحقير، ولا أبيض وأسود، ولا عربي وعجمي، فالجميع مقبلون على الله العلي العظيم يلبسون أزراً وأردية لونها واحد وشكلها واحد، الجميع حاسر رأسه خالع لجميع ثياب الدنيا التي اعتادها عن بدنه يفعلون أفعالاً واحدة، ويقفون بمكان واحد، وفي زمان واحد، والجميع سواسية، وهذا المشهد الرائع يزيل الكبر من نفوس المتكبرين والعُجب من نفوس المعجبين بأنفسهم، ويزيل التعالي من نفوس المتعالين.
يضاف لذلك تعويد المسلم الترفع عن الانصياع للشهوات والانغماس فيها.. فمدرسة الحج التربوية ترفع المسلم عن عبادة الشهوة والانصياع لها وتبين له انه قادر على ترك هذه الشهوة في هذه الفترة التي يؤدي فيها فريضة الحج.
ومن الدروس أيضاً: احترام الوقت ودقة المواعيد: فكل نسك من مناسك الحج شرع في وقت محدد لا يصح قبله ولا يصح بعده وبالتالي يدرك وجوب المحافظة على الوقت وتنظيمه وكيف يلتزم بمواعيده وانه لا يجوز له خلف وعده لأن خلف الوعد من صفات المنافقين.
ويضيف د. الخضر ان جميع هذه الدروس تعلم المسلم انه قادر على تغيير المألوف والمعتاد، حيث يتغير نمط حياة المسلم حينما يحج وتنقلب أحواله، فينام في الوقت الذي اعتاد على الاستيقاظ فيه ويستيقظ في الوقت الذي اعتاد ان ينام فيه ويهجر الفراش الذي اعتاد ان ينام عليه والجو المكيف الذي اعتاد ان يعيش فيه، وقد كانت هذه الأشياء قبل الحج من المستحيلات ولكن الحج حول المستحيل إلى واقع، والمرفوض إلى مقبول، والمباح إلى ممنوع، إنها مدرسة الحج التربوية التي أثبتت لنا انه لا شيء من طباع النفس وشهواتها يستحيل مع التربية الحقة، وانه يمكن تغيير الصفات السيئة التي يتصف بها بعض المسلمين إلى صفات حسنة ومرغوبة فيتحول واقعهم السيئ إلى واقع أحسن، وان هذه المهمة الكبرى تقع على عاتق المربين وعلى طلبة العلم والعلماء والدعاة في الحج كما يتحملون مهمة تغيير واقع مجتمعاتهم إلى حال أفضل مما هي عليه، فإدراك هذا الأمر يفتح الآفاق أمام المصلحين ويشعرهم ان هذا الواقع الذي يئن المسلمون تحت ضغطه، وهذا الجهل والتخلف الذي أصاب المسلمين في عصرنا الحاضر يمكن ان يتغير ويتبدل فيعود المسلمون إلى سالف مجدهم وعزهم فيعودوا كما كانوا خير أمة أخرجت للناس، فيتصدروا الأمم ليقودوها في الحياة فيخرجوهم من دياجير ظلام الكفر الدامس إلى نور الإسلام الساطع فيكونوا شهداء على الناس كما رضي الله لهم ذلك، ولكن هذا مربوط بالعمل الصالح المقترن بالنية الخالصة لوجه الله تعالى مع عدم استعجال النتائج وقطف الثمار.
|