كان الجواهري من الناس الذين يكرهون الموت بكل ما لديهم من طاقة على الكره، ولقد كان بلغ به الكره انه كان يوم كان في بغداد يحب كثيرا سماع نشرة اخبار اذاعة الكويت التي تذاع على الساعة الواحدة من ظهر كل يوم، ولكنه كان أيضاً في آخر النشرة يترصد الإذاعة، ويسابقها بعصبية، وهوس لكي يغلق المذياع قبل أن يصل المذيع إلى إذاعة اخبار من توفوا.
ومن عادة إذاعة الكويت ان تذيع في آخر النشرة: انه «انتقل إلى رحمة الله فلان بن فلان عن عمر يناهز كذا..» وما إلى ذلك. فكانت هذه العادة الاخبارية الكويتية المدفوعة الأجر باعتبارها اعلانا أبغض شيء إلى نفسه، لا لشيء إلا لأنها تذكره بالموت الذي يبغضه اشد ما يكون البغض. ومن هنا كان إذا ما فاته ان يسبق المذيع في اغلاق المذياع يعلق بعصبية وامتعاض، ما هذا السخف؟ وهل على الناس، وعلي ان نعرف ان فلانا فطس؟ ثم ينهض من على اريكته وهو يتأفف، فإن هدأ قليلاً وعاود جلسته ضرب بكفه اليمنى على ركبته اليمنى ضربات متوالية مصحوبات بتنهدات، وآهات وهو يردد: إيه، دنيا، دنيا، ويمد الألف من «دنيا» الأولى، ويختلسها في الثانية.
ومن هنا لم يكن غريبا عليه يوم رثى الرصافي ان يقول في رثائه:
أنا ابغض الموت اللئيم، وطيفه.
يغضي طيوف مخاتل نصاب. |
يهب الردي شيخوختي، ويقيتها بكهولتي، ويقيتها بشبابي ذئب ترصدني وفوق نيوبه دم اخوتي واقاربه، وصحابي.
يقول الأستاذ الأديب الكبير محمد حسين الاعرجي الصديق المقرب من شاعرنا الراحل الكبير الجواهري في إحدى مقالاته المتميزة.
كنت أعرف كل هذا عن الراحل الكبير لا سماعا بل عيانا، لكنني فوجئت ذات مساء يكاد يكون ربيعا انه يطلب مني ان أزوره في بيته، وكان ذلك في يوم 16/3/1977م، واستجبت إلى طلبه، فكان ان قال بعدما يكون بين المضيف وضيفه من أحاديث، والآن أجدني اكاد أروي حديثه حرفا بحرف قال:
اسمع ابا هاشم، انا اعرف انك انت وسواك من الأدباء الشرفاء تحبونني وتتمنون لي طول العمر، لكن الموت حق، فلا تتفاجأ ان اسارك بشيء.
ثم نهض من مقعده، وجاءني بكتاب «دفاتر ثقافية» لمهدي شاكر العبدي، فلم أفهم العلاقة بين الأمرين، وفتحت الكتاب على صفحة الغلاف الداخلية فوجدت فيها: «هدية المؤلف إلى الشاعر العظيم الجواهري مع الاحترام» وازدادت حيرتي في ان مقدمة حديثه لا تشبه النتيجة التي هي بين يدي، فما الذي حدث؟
ولاحظ هو علي ذلك فأخذ من يدي الكتاب وفتحه على الصفحة التي بعدها ساكتا، ثم ناولنيه مفتوحا، فوجدت فيها شيئا بخط يده، وما كدت أحاول ان أقرأ بيني وبين نفسي حتى استرجع الكتاب من يدي، وبدأ يقرأ وأنا أسمع:
«وصية..
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}
صدق القرآن الكريم
فبدا على وجهي شيء وهو يقرأ فسألني: مالك؟ فقلت:
لم استسغ قولك أبا فرات في التصديق على القرآن الكريم وحده من دون الله تعالى، على رغم معرفتي بصدك، وسلامة طيتك، لأن ذلك مما يمكن ان يكون شبكة للمتصيدين في الماء العكر وهم كثيرون، ولابد انك تتذكر الضجة التي مازالت قائمة على الرصافي ممن يتجرون بالدين.
فما كان منه إلا ان طلب قلمي دونما تعليق ومشى به على الجملة يشطبها، ولكنه لم يكتب شيئاً آخر مكانها لضيق المساحة، وإذا انتهى من ذلك بدأ يقرأ الوصية التي أنقلها للقارئ الكريم كما هي:
«وصية..
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}
وبعد فإنني: محمد مهدي ابن «كذا» المرحوم الشيخ عبدالمحسن آل صاحب الجواهر أوصي من بعدي بما يلي:
أولاً: أن تعود ملكية الدار العائدة لي في محلة «القادسية، حي الصحفيين، المرقمة 27/3» إلى زوجتي وبنت عمي «امونة جعفر أحمد» مضافا إليه «كذا» ما سبق تسجيله باسمها من كل أثاث الدار وملحقاته «كذا» (1):
ثانيا: ان تعود حيازة وتملك كل ما عند غيري من آثاري الأدبية كتابة وشعرا، وكل حقوق الطبع، واعادته منها إلى ولدي «فرات» وضمن ذلك مراسلاتي مع الآخرين، ومراسلاتهم معي، وكذلك كل ما يتم من «مذكراتي» الخاصة، وان يكون المتصرف الوحيد بما يطبع منها من «جديد» أو ما يعاد طبعه، أو ما يشترى ويباع منها.
ثالثاً: إني أوصي «فرات» الا ينسى تذكراخواته وأشقائه، بما عسى ان يكون لهم في ريع ذلك من سد من عوز، او دفع لمكروه.
رابعاً: أوصي كل من بعدي من أهل بيتي بمراعاة خالتهم الحاجة «طليعة» (2) التي تشاطرهم السراء والضراء.
خامسا: انني ألتمس من كل منهم جميعا ان يعبروا عن حزنهم لفقدي باحترام ارادتي ان يكونوا مثالا للوقار، والسكينة، والصمت الحزين لدقائق معدودات، وبإنارة الشموع لي بينهم ما تيسر لهم ذلك، والسلام.
ثم أعطاني الكتاب الذي فيه الوصية طالبا مني ان أحتفظ به، واحتفظت به، واجدني وانا اراجع اوراقي الآن قد كتبت على الكتاب: «إنه كتب هذه الوصية.. يوم الأربعاء وأطلعني عليها في الساعة التاسعة من مساء هذا اليوم، وكان قد فرغ من كتابتها كما قال لي توا، وكنت أو من اطلع عليها كما اخبرني ايضا.. ثم شكلنا قصيدة: لغة الثياب».
وقلت شكلنا قصيدة: «لغة الثياب» بمعنى اننا فعلنا ذلك لكي يطمئن الراحل إلى سلامة فهمي لها، لا ان اشاركه في فهمها او شكلها. وذلك لانني كنت مسؤولا عن الاشراف على نشرها في جريدة «الجمهورية» العراقية.
هذه هي وصية الجواهري الأولى، ولا أعرف على رغم بغضه للموت لماذا كتبها؟ وما هي الظروف العائلية او الذاتية التي دفعته إلى كتابتها؟
اقول هذا لأن الجواهري كان مؤمنا إيمانا مطلقا بأنه يموت قبل: ان يبلغ المائة «وقد بلغها حقا في حساب السنوات الهجري» حتى انه كان من اليقين بطول عمره حيث تحدث في وصيته عن ذكرياته التي لم يكن شرع بكتابتها. واقول لأنه كان يتطير من ذكر الموت، فما الذي دعاه إلى ان يكتب وصيته، وهو لم يستوف الثامنة والسبعين من عمره؟ ما الذي دعاه؟ لا أدري، لكنني أخمن ان هنالك ظروفا عائلية لم يحدثني عنها هي التي دعته إلى ذلك. وهذا محض تخمين أرجو الا يحمل على محمل آخر.
وقلت: إنها الوصية الأولى، وكنت أعني ما أقوله، لأنه كتب بعدها وصية وهو في دمشق تنسخ هذه الوصية التي أنشرها (3).
بقي لي بعد ذلك ان الاحظ عظمة ابن الرومي حكيما لا شاعرا فحسب يوم قال: وتقدرون فتضحك الاقدار.
فقد كان فقيدنا الكبير قدرا ان زوجه الفاضلة المرحومة «مونة» ستبقى بعده، وسترثه، لا لشيء إلا لأنها اصغر منه سنا فماتت قبله.
وقدر ان ابنه البكر «فرات» سيبقى بعده وسيرثه، وينفذ وصيته فمات قبله أيضاً. ولكنه ما قبله من دون ان يعلم الجواهري بذلك، لأن خبر وفاته كان مما اخفاه اهل بيته عنه. وحسنا فعلوا فقد كاد يكون «فرات» في مزاجه، وفي كثير مما يتعاطاه، نسخة من ابيه، لذلك كان نعيه لو بلغه يعني فيما يعنيه ان ينعي شاعرنا نفسه إلى نفسه.
ومات الجواهري الكبير غريبا عن بلده، وعما يورث عائلته فيه، فلم يترك لأهل بيته من حطام الدنيا إلا مجده الواسع العريض الخالد لو كان هنالك مجد يورث، فكان بذلك فقد علل اولاده عن ارثهم اياه بشر تعلة كان قد وصفها هو سنة 1940 في قوله:
وعللت أطفالي بشر تعلة
خلود ابيهم في بطون المجامع |
وسلام عليه يوم ولد، ويوم مات، ويوم يطل على الاجيال بعد قرون شامخا يباهي بعمارة قصائده، ومواقفه الوطنية.
رحم الله شاعرنا العملاق محمد مهدي الجواهري فقد كان رائدا.. بمعنى الكلمة.. وترك لنا كنوزا من شعره البديع الذي سيخلده.. بعد جيل.. وقرنا بعد قرن والله المستعان.
****
(1) يلاحظ على الجواهري انه يذكر «الدار» وهي مؤنثة، على معنى البيت، والمثوى كما قال تعالى: { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِين}.
(2) الحاجة طليعة كانت تعيش في دار الجواهري.
(3) راجع «في رحاب جواهري» لصباح مندلاوي.
|