تختلط عند كثير من الناس مفاهيم عديدة يتم استخدامها دون تمحيص دقيق لانعكاساتها على الواقع الثقافي الاجتماعي. وقد يكون من بين تلك المستخدَمات مثبِّطات للعزيمة ومسكِّنات لغريزة الطموح لدى الناس القاضي - بالضرورة - بالبحث والتنقيب والاجتهاد في الوصول لحقائق الأمور، أو التغلب على المشكلات المتعددة التي تواجه المجتمع أفراداً وكيانات. وعندما تتدخل كيانات مجتمعية لتفرض واقعاً معيناً على كيانات أخرى، تجول الكيانات الفاعلة وتصول في المجتمع من أجل ترسيخ مفاهيم التثبيط والسكينة والرضا بالأمر الواقع، وتعمل على سيادة ثقافة النزعة إلى الانطوائية والانعزالية. والخاسر الأكبر في هذه البيئة هو المجتمع بكل عناصره ومركباته المتعددة. وتختلف وتتعدد الأساليب والوسائل التي تستخدمها تلك الكيانات المجتمعية الفاعلة لتحقيق ذلك. ومن أبرز وأهم تلك الوسائل والأساليب، الأمثال الشعبية التي يمكنها أن تمر في وعي المجتمع مرورا سريعا مكوّنة بذلك ثقافة خاصة تستند مركباتها إلى مركبات المثل وعناصره.
وقد شاع في مجتمعنا السعودي استخدام المثل السائد (القناعة كنز لا يفنى). ومع أهمية طرح القانعين وتمجيدهم لأهمية القناعة عند الناس ومناقبها، إلا أن الأمر لا يخلو من خطورة كبيرة على المستوى المجتمعي. القناعة والرضا مطلبان مهمان، ولكنهما - أيضا- مشروطان بأن يكون الواقع الذي يقتنع به المجتمع ويرضى عنه واقعاً مؤهلاً للبقاء والاستمرار بكل عناصره. وإذا أمكن الاتفاق على ذلك انتفت سلامة المثل من الهوى جملة وتفصيلا، لأن الأصل في المجتمع الإنساني التغير والتحول وعدم الثبات على حال. وبذلك ظهرت مفاسد كبيرة يمكن أن تقض أركان المجتمع نتيجة، تسليم أهله بأن يقنعوا، وأن يستكينوا، فيصبحوا مجموعة من الناس القنوعين الذين لا خير فيهم، وأنْ بورك في الشباب الطامحينا، كما يقول شوقي. وبذلك فالقناعة والطموح خصمان لا يلتقيان في الفكر المجتمعي. وإذا سادت ثقافة القناعة والرضا بما هو كائن تدنّت قيمة العمل والبذل والإبداع والتفاني من أجل مستقبل متغيِّر ومتطور. لعل اتجاه المجتمع وشحذ همم بعضه بعضاً للقناعة دائماً، أو أحياناً، بما هو متاح وموجود وسائد، كان اتجاهاً غير ملائم مكّن من تكوّن ثقافة الاختراق للنسيج الثقافي الاجتماعي، كنتيجة طبيعية لضعفٍ في المركبات الخاصة لعدد من كيانات المجتمع وأفراده في مواجهة التغيّرات والتقلبات الدولية والمحلية المعاصرة. أتاحت (ثقافة القناعة) تلك لمن هم ليسوا قنوعين في المجتمع أن يذهبوا بأطروحاتهم الفكرية كل مذهب، مستندين إلى فرضية القبول المجتمعي المستكين، وإلى ثقافة الرضا والتسليم بسيادة الفكرة الواحدة والنظرة المنفردة، وعدم النزعة الواعية للمواجهة والتفاعل والمجادلة وقرع الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان.
* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|