مؤلم صدقاً.. أن ترى شاباً زَيّن الله وجهه بلحية كريمة، وشرفه المولى بثوب فوق كعبيه وهداه لاتباع القرآن والسنة، قد ترك الدنيا وزخرفها وشبر فيافي الزمان حاملاً روحه على كفه، باذلاً في سبيل الله النفس والمال والأهل والولد ثم يفسد جهاده وورعه وتقاه وصلاحه بِشبهٍ تمسك بها أدت إلى مشاركته في سفك دم مسلم الذي أشد حرمة عند الله من الكعبة أو معاهد مستأمن يعيش بيننا بشروطنا وربما يعود السبب في تمسكه بتلك الشبه أنه لم يجد من يفريها ويفندها شبهة شبهة وتقوقع على نفسه مع أتباعه في الرأي يخشون المناقشة وبخاصة إذا أدركنا أن وسائل الإعلام المختلفة كانت لا ترى ضرورة طرح مثل هذا قبل الأحداث الأخيرة خشية الفتنة ولم تدرك أن الصمت تجاهها أدى بنا إلى هذه الحال التي حمل من خلالها شباب الأمة الضرر وقذفوها به نتيجة إيمانهم بمواجهات مع الآخر تفتقد إلى السياسة الشرعية والقراءة الصحيحة للواقع، إذ أثبتت تلك المواجهات القولية والفعلية خسارة الأمة لمجالات دعوية كثيرة وجمعيات خيرية كانت رافداً من روافد النماء والازدهار وتحقيق العبودية الخالصة لله عز وجل وإخراج العباد من عبادة الحياة والعباد إلى عبادة رب العباد، ولا أدل على تلكم الخسارة من قفل باب مسجد أو متابعة مركز أو حساب لمعهد أو اعتقال مسلم وحرمانه من العلم والعلاج في أي مكان من هذا العالم، بل إن الآخر المتربص قد أخذ مقابل هدم برجين من خرسانة مسلحة أضعافاً مضاعفة بحجة محاربة الإرهاب والأمة لم تستفد شيئاً يذكر من تناثر الغبار والإسمنت ولم تفلح إلا في إعطائه شرعية دولية لحماية أمنه واستقراره، ورغم هذه النتائج المؤلمة ما زال كثير من الشباب الحركي يظنون أنهم يحملون هماً للإسلام لا يتوافر في غيرهم وحماسة لا نظير لها عند الآخرين الذين يتهمونهم بالجبن والمداهنة وخذلان الأمة في صور تثبت أن القدرة على التأثر في الواقع لا يمكن أن تتأتى بالعجلة في الحصول على النتائج وربما تلك العجلة تفسد كل الجهود السابقة والمنجزات والمكتسبات التي حققناها في العالم وتعرضنا جميعاً للسؤال والحساب، والأعجب من ذلك أنهم يتفاخرون بأنهم خير من يفهم الواقع والسياسة الشرعية.وليس لهم نصيب من ذلك إلا الخيال الواسع والأحلام البعيدة، وهذا يجعل المسؤولية الملقاة على علماء الأمة ومفكريها ومصلحيها ومثقفيها كبيرة جداً في علاج تلك الشبه، وفسح المجال للشباب في الحوار والمناقشة بحرية في القاعات الدراسية والمنتديات الإعلامية والمحاضرات والدروس والتركيز على فتاوى العلماء في وسائل الإعلام، وما زلت أذكر طالباً في قسم الشريعة بعد ما تذاكرنا باب الإضافة وحاجة الأمة إلى علماء في النحو واللغة على منهج أهل السنة والجماعة ولا ننسى جهود السابقين من السلف الصالح عندما تعرضنا للتقدير في قوله تعالى «وجاء ربك» وبينا الخلل العقدي الناتج من التقدير عند النحويين، ذلك الطالب قد تكلم بحرقة وألم عن التأثير الحركي في الشباب الذي تربى غالبهم على شبه تطرح هنا وهناك قد استغلت من قبل الذين قي قلوبهم مرض وزينها الشيطان في عقولهم دون الرجوع لكلام العلماء في شرحها وبيان الخاص والعام فيها والناسخ والمنسوخ وعرض الأدلة الأخرى في المسألة مما يعطي رأياً وحكماً أقرب إلى الصواب، وركز ذلك الطالب على أننا لم نجد من يشرح لنا ذلك ولم نجد من يأخذ بيدنا إذ كل أستاذ مشغول بمنهجه الذي بين يديه لا يخرج عنه خوفاً من الحساب والضرر في عمله الأكاديمي وحياته العامة أو مرضاً من عند نفسي أو سداً لباب قد يصنف من خلاله وهو في غنى عنه وعن الحديث في عرضه فقلت له ماذا يدور في رأسك يا رعاك الله؟ فقال ورد حديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» ما معنى ذلك باختصار؟ فأخرجت له ورقة فيها فتوى للشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله تخص هذا الحديث له من حقيبتي التي ملأتها بمثل هذه الأوراق المصورة استعداداً لأي سوال وقرأت عليه كلام الشيخ قائلاً: يجب أن نعلم أن أسد الدعاة في الدعوة إلى الله هو النبي صلى الله عليه وسلم وأن أحسن المرشدين إلى الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا علمنا ذلك فإن أي فهم نفهمه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم مجانباً للحكمة يجب علينا أن نتهم هذا الفهم وأن نعلم أن فهمنا لكلام النبي صلى الله عليه وسلم خطأ، لكن ليس معنى ذلك أن نقيس أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بما ندركه من عقولنا وافهامنا، لأن عقولنا وأفهامنا قاصرة، لكن هناك قواعد عامة في الشريعة يرجع إليها في المسائل الخاصة الفردية.. ومن المعلوم أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم ليس إذا رأى الكافر ذهب يزحمه إلى الجدار حتى يرصه على الجدار، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا باليهود في المدينة ولا أصحابه يفعلونه بعد فتوح الأمصار وليس في الحديث تنفير عن الإسلام، بل فيه إظهار لعزة المسلم وأنه لا يذل لأحد إلا لربه عز وجل، فكلام الشيخ يؤكد أن ذلك مرتبط بقوة المسلمين ومنعتهم ومنعة دولتهم المسلمة ومرتبط أيضاً بالآخر هل يُرجى منه الإسلام أم لا؟ ولا ننسى بأن الإسلام جعل لمن يرجى إسلامه وهو مشرك سهماً في الزكاة تحت مسمى «المؤلفة قلوبهم»، وجر هذا الحديث إلى سؤال آخر من طالب آخر يتعلق بحقيقة الولاء والبراء والتعاون مع الكفار من خلال المعاهدات والمواثيق فذكرته بقصة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وهو من أهل بدر عندما أرسل كتاباً لكفار قريش يخبرهم بأسرار المسلمين وعدتهم وعددهم مع امرأة، ولما أخبر الوحي المصطفى أرسل في إثرها من يحضر هذا الكتاب وهم بعض الصحابة بضرب عنقه لأنه منافق، وما كان من المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا أن فهم قصده وعذره في فعله لأنه أحب أن تكون له يد على قريش ليحفظوا عائلته ويكرموا أهله بينهم في مكة وقال وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.أو كما قال ولو كان كافراً لما غفر له الرسول صلى الله عليه وسلم خطأه وقال تعالى: { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} وهذه الآية فسرها ابن كثير «2/27» أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء إنه قال إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم» وقال الثوري، قال ابن عباس «ليس التقية بالعمل، إنما التقية باللسان» وقال ابن سعدي في تفسيره «1/259» أي إلا بأن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين، فلكم في هذه الحال الرخصة في المسألة، والمهادنة، لا في التولي الذي محبة القلب الذي تتبعه النصرة، وقال الأمير صديق حسن القنوجي في تفسيره «2/215» وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً، وخالف في ذلك قوم من السلف فقالوا لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام. وإذا كان المسلمون ضعافاً وكما في واقع اليوم فلا بأس من المعاملة الحسنة والبعد عن مواجهة العدو القوي تعبداً لله وطاعة لرسوله وحرصاً على أمة الإسلام وأكد ذلك الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير 3/221 وقال تعالى أيضا: { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} والسيرة مليئة بمواقف تبين المعاملة الحسنة التي لاقاها اليهود والنصارى والكفار من المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل إنه دخل مع خزاعة في حلف ولم يؤثر ذلك على عقيدة الولاء والبراء ليكون قوله وفعله وتقريره مصدراً تشريعياً، وما أجمل قول فضيلة الشيخ صالح الفوزان في بيان هذا الأمر: أيها الطلاب، «وقد يكون الغلو في الولاء والبراء فيظن أهل الغلو أن البراءة من الكفار تعني تحريم التعامل معهم فيما أباح الله مما فيه منفعة بدون مضرة ولا تنازل عن شيء من الدين وأنها تعني الاعتداء على المعاهدين منهم والمستأمنين بتفجير مساكنهم وسفك دمائهم وقتل عوائلهم وإتلاف أموالهم متناسين قوله صلى الله عليه وسلم «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة» فعجيب من شباب يضلون ويستبدلون في طلب الحق والفتوى الذي هو أدنى بالذي هو خير وهم في عصر سماحة العلامة ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله وسماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ وفضيلة الشيخ صالح الفوزان وهيئة كبار العلماء الذين لم يقصروا في بيان حقيقة هذا الشبه.ثم سأل طالب آخر عن إطلاق سراح الكفار من السجون، ولماذا لا يتم قتلهم؟
فأجبته أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أطلق سراح كفار قريش في يوم الفتح وكلنا يعلم السبل التي صدوا بها الإسلام وأطلق سراح ابنة حاتم الطائي وهو مشرك تقديراً لحسن خلق والدها لما قالت إن أبي يطعم الجائع ويكرم الضيف ويفك الأسير، فأثنى صلى الله عليه وسلم خيراً على خلقه وقال لو كان مؤمناً لترحمنا عليه وقال لما سمع قصيدة قتيلة بنت النضر في رثاء أخيها بعد ما قتله المسلمون:
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيض المحنق |
وقال لو سمعتها قبل قتله لأطلقت سراحه، والسيرة مليئة بنماذج العفو النبوي، وهذا يؤكد أن لولي الأمر الحق المطلق في تقدير ما من شأنه يرفع الحرج عن الأمة، كما أنه واجب عليه إذا علم أن إطلاق سراح هؤلاء يجلب الخير للإسلام والمسلمين، ويدفع عنهم الشر أن يتخذه وفق ما أعطاه المولى عز وجل من صلاحيات تحمي المجتمع المسلم وتضبط علاقاته مع الأمم الأخرى وتقفل باباً لا يدرك خطره وشره إلا العارف ببواطن الأمور وخفاياها، وإذا كان من حقه أن يقتل تعزيراً حفاظاً على المصلحة ودفعاً للمفسدة أنستنكرُ عليه أن يطلق سراح كافر تتولى دولته حسابه وعلاج شره، الذي خص به أبناء جلدته.ثم انبرى طالب آخر وسألني عن الكتاب الذي معي، فأجبته أنه كتاب في مجلدين مطبوع حديثاً بعنوان «موقف المملكة العربية السعودية من الإرهاب»، لفضيلة الشيخ الدكتور سليمان أبا الخيل وكيل جامعتنا حفظها الله وهو فريد في بابه وحجة يدفع الله بها من يتهم هذه البلاد برعاية الإرهاب، وسأحكي عنه في مقالي القادم بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
أيها الأكاديميون ينبغي أن ندرك أهمية العلاقة بين الطالب وأستاذه لقبول التصحيح وعلاج الشبه وضرورة ألا يشعر الطالب بالقمع والازدراء والانتقام نتيجة صراحته ومناقشته وحواره من قبل الأستاذ بناء على حزبية وتعصب للذات والمنهج يبرأ منهما الإسلام والمسلمون الذين وإن اختلفوا في بعض الأمور إلا أنهم يتفقون على أسس كثيرة ويعذر بعضهم بعضاً في ذلك الخلاف.
(*)الإمارات العربية المتحدة
|