كان الحديث في الأسبوع الماضي يدور حول بيئة العمل التي يجب توفيرها لأساتذة الجامعات السعوديين حتى يمكن الحصول على أفضل قدر من الخدمات التي يقدمونها لجامعاتهم ومجتمعهم. وفي هذا الاطار فإن طبيعة البيئة المناسبة لأستاذ الجامعة لا تتحدد بحجم وطبيعة الخدمات التي يؤديها لجامعته فقط بل يؤثر في تحديدها ما يتوقع منه ويفترض فيه أن يؤديه لمجتمعه.
فعلماء الاقتصاد يسمون الخدمات التي يتحصل عليها المجتمع من أساتذة الجامعات نتيجة لمزاولتهم لعملهم الرسمي ولطبيعة عملهم أيضا آثاراً خارجية موجبة.. إن صحت الترجمة - فأستاذ الجامعة عندما يقوم بعمله يسهم - على سبيل المثال لا الحصر - في رفع درجة الوعي لدى شريحة كبيرة ومؤثرة من أفراد المجتمع، ويسهم أيضا في زيادة حجم المعرفة المتاحة للمجتمع ونشرها بين أفراده، كما أن لخدماته آثاراً ايجابية في زيادة الانتاجية لدى طلابه وبالتالي خفض معدل البطالة وزيادة الأجور. وهذه الأمور وغيرها مما يوفره أستاذ الجامعة لمجتمعه مطلوبة، ولو لم يكن أساتذة الجامعات يوفرونها لمجتمعاتهم للزم المجتمع توظيف من يقوم بتوفيرها ولكن بتكلفة باهظة هذه المرة.
ولأجل أن يحصل المجتمع على أقصى قدر ممكن من هذه الخدمات فلابد أن يشمل العائد المادي الذي يحصل عليه عضو هيئة التدريس مقابلاً لهذه الخدمات، وبدون هذا المقابل فإن قدراً كبيراً من هذه الخدمات لن ينتج إما صراحة أو ضمنياً. هذا إذا كان العائد المادي مقابل العمل الرسمي مجزياً، فماذا سيكون عليه الحال فيما لو لم يكن كذلك.
ولعل فيما نراه من اتجاه كثير من أساتذة الجامعات للقيام بأعمال أخرى من أجل تحسين وضعهم المادي، خير شاهد على ضياع كم هائل من الخدمات التي كان بامكان المجتمع الحصول عليها من أستاذ الجامعة، وضياع كم هائل من استثمارات المجتمع في هذا الجانب. فالوقت الذي يصرفه الأستاذ في الانشغال بأعمال خاصة هنا وهناك كان من المفترض توجيهه نحو أمور أكثر أهمية ولا أحد غيره مؤهل للقيام بها، لكن لانعدام الحافز ولوجود ضغوط ومتطلبات اجتماعية كبيرة على أستاذ الجامعة كان هذا هو الخيار المر له والخاسر لمجتمعه.
يغيب عن كثير من القرارات البعد والأساس العلمي، ولا تنطلق عند اتخاذها من الدراسات العلمية المعمقة، ولعل هذا لا يكون كذلك عند مناقشة أوضاع هيئات التدريس على أقل تقدير. فالهدف - كما سلف - ليس مجرد تحسين أوضاعهم بل الوصول الى أفضل عائد ممكن من هذه الاستثمارات، وتحقيق ذلك يستلزم الاستفادة مما هو متاح من دراسات متخصصة في هذا الشأن.
ما يحتاجه المجتمع الآن هو وقف التسرب الصريح والضمني لأساتذة الجامعات، وتوفير بيئة عمل قادرة على جذب المتميزين الى هذه المهنة الآن ومستقبلا خاصة والحاجة متزايدة لهم كنتيجة حتمية للتوسع في التعليم الجامعي وللتطور التقني والاقتصادي والمدني وللتبدلات والتحولات الكبيرة والمتسارعة في حياة المجتمع، وحتى لا نفشل في سعودة مهنة التدريس في الجامعات بعد أن نكون قد نجحنا في سعودة مهن أخرى أقل أهمية وتأثيراً في حياة المجتمع.
|